عندما أطلقنا في الاتحاد العام التونسي للشغل كنّا ولا نزال على وعي عميق بضرورتها التاريخية تجاوزًا لهذا الوضع الدقيق والخطير الذي تمرّ به تونسنا. وكنّا متمثّلين للمشهد العام بما فيه من تجاذبات وتوتّر واحتقان ترجمت جميعها في مصادمات كثيرة بلغت أحيانًا حدّ العنف المنظّم والممنهج... والتقطنا تقاسم جميع الفرقاء لهذا الشّعور وإدراكهم لحساسيّة الوضع فتقدّمنا ب بوصفنا منظمة وطنية جامعة قادرة على التّقريب بين كلّ الفرقاء لصالح تونس... كلّ تونس. وبقدر وعينا بضرورة المبادرة، كان وعينا بالمعوّقات التي تنتظرها طبقا للتجاذبات التي أشرنا إليها... تجاذبات بين من يرى نفسه أحقّ بمسك زمام المبادرة وتوجيه دفّتها إلى مصالحه الفئوية، وبين من يتوجّس خيفة من أنّ المبادرة هي انقاذ لهذا أو ذاك ممّن خاض التجربة ولم يثبت قدرته على إدارتها وبين ينتظر صادقا إطارًا ديمقراطيا حقيقيًّا من شأنه أن يجنّب البلاد المزالق ولكنّه لا يفتأ يضع الشروط ممّا قد يشكّل عبئا علىا لمبادرة... وبين كلّ هذه التجاذبات وغيرها، رأى الاتحاد أنّ من شروط نجاح الحوار هو عدم وضع شروط مسبقة له، طالما أنّ الجميع، أو على الأقلّ الأغلبيّة، قد قبلوا بالمسار الديمقراطي وبالمبادئ العامّة للدولة المدنية وللنظام الجمهوري، وأنّ الشرط الوحيد هو التّعبير عن الاستعداد لقبول مبدإ التوافق... وقد حرصنا على التأكيد على أنّ هذه المبادرة لا يمكن أن تعوّض الهيئات الدستورية وأنّها لا تفعل غير تجنيب البلاد الانزلاق في مستنقع العنف، وتمكّن المجلس الوطني التأسيسي من ربح الوقت ومن إزالة العقبات ليكون له القرار السيادي النهائي والأخير، وهو توضيح مهمّ لطمأنة من قد يتعلّل بأنّ المبادرة أتت لسحب البساط من الشرعية الانتخابية... وكُنّا نتوقّع بعض المناورات من هنا وهناك امّا لإفشال المبادرة أو لإرباكها أو للالتفاف عليها وأكّدنا أنّها الفرصة الأخيرة لنزع فتيل التوتّر والمخرج المرضي لتجاوز عنق الزجاجة وأنّ المرحلة الانتقالية تستدعي بالضرورة، كما حدث في تجارب بلدان أخرى إلى شرعيّة التوافق، وهو ما نجحت فيه تونس بنسبة عالية قبل انتخابات 23 أكتوبر... ولقد جاءت الهجمة المنظّمة يوم الاربعاء على المقرّ المركزي للاتحاد في بطحاء محمد علي، بتعلّة الاحتجاج على اضراب عمّال نقل تونس، لغاية الإرباك ولمحاولة خلط الأوراق... لكن الاتحاد الذي استطاع في كلّ الحِقَب الدفاع عن نفسه، والذي أثبت حسن إدارته للأزمات، أثبت مرّة أخرى تصحيحه على تغليب المصلحة الوطنية، وأثبت النقابيون قدرتهم على ضبط النفس، وإن لم ترضهم تبريرات بعض الأطراف وازدواجيّة خطابها، ولذا هو مصمّم على الاستمرار قدما في عقد المؤتمر الوطني للحوار مُثمّنًا موقف رئيس الحكومة المرحّب بالمبادرة والمتمسّك بها وإن كان البعض قد عزا ذلك إلى أنّه مجرّد موقف من رجل دولة! إنّ نجاح المبادرة سيشكّل عرسًا ومن يراها غير ذلك فهو يتربّص بتونس ويضمر لها شرّا ولا يفعل غير أن ينتهز الفرص للانقضاض عليها وعلى مكاسب شعبها...