من الصّعب أحيانا على الواحد منّا أن تحتفظ ذاكرته بوجوه كثيرة لأنّها وجوه بلا ملامح تتبخّر مثل ضباب الصّيف، والتفرّد ميزة لا توهب للدّخلاء المتطفّلين فكُثّرهم أشباه الفنّانين. ولأنّ فنّه كان من الأعمال التي علقت بالأذهان وبقيت محفورة في أسطر الوجدان، في الدّم والشريان، فإنّه سيظلّ ثابتا رغم أنّ السّنين تدور ولاتزال حولنا الاف المرّات. سيبقى فنّ بااروتي مرسوما على حائط الأيّام وان كان الموت قد سرقه على حين غفلة منّا، فإنّ تاريخه باق يتحدّى سنوت العمر، يتحدّى الحاضر والآتي، فالعمل الصادق والكلمة بل الإحساس الحيّ لا يموت أبدا إنّما يجد له مكانا ليواصل الازدهار ويقف في وجه الزّمن ويؤكد أنّ الفنان المبدع ليس بجسده، فالجسد فانٍ والرّوح باقية أبدا. بااروتي الأسطورة لا يقبل التكرار وما الموت الحقيقي الاّ موت الإحساس، صحيح أنّ الزمن يأخذ منّا كلّ شيء أعزّ ما نملك، أقرب الناس وأحبّهم الاّ مشاعرنا، حنيننا يبقى في أعماقنا السر الدّقين الذي لا يسلبه منا أحد حتى وان عاندنا الزّمن. وبااروتي فيض عطاء بلا حدود، حين يصدح بصوته تستحيل الأوبيرا معه الى لحظة أبديّة تنبت في صحراء ليالينا، وإن قصُر زمنها تدوم عذوبتها ويصبح لها دويّ النّحل في تناغمها ومذاق العسل في تمازجها تعيد على مسمع النفس خوالج الوجدان. سأختزل الكلمات، لأنّني أردتها أن تكون رسالة ذات أولويّة أوجّهها الى الغربان التي تنعق فتعتّم المكان والزّمان، ولأنّه كان رجلا من الزّمن الآخر لا يقبل الاستنساخ فقد رحل.