على هامش الحوار الوطني الذي لم ينطلق بعد في بلادنا و في خضم التجاذبات السياسية و الاجتماعية التى تطغى على المشهد العام أود أن أتقدم بجملة من الأفكار مساهمة مني في بلورة رؤية اجتماعية-اقتصادية لواقعنا الفلاحي. هذا الواقع الذي يمر بعديد التغيرات على المستوى الوطني و على المستوى العالمي يتطلب منا توحيد الجهود لايجاد حلول عملية تتماشى مع واقع الفلاحة باعتبار المصلحة الوطنية. لذلك يجب أن نبدأ بفتح حوار وطني حول الفلاحة "الفلاحة : الواقع و الافاق" في أقرب الاجال. فتدهور أوضاع الفلاحين جراء اهتزاز الأسعار و تراجع المردودية يتطلب منا تحقيق المعادلة بين ضمان الدخل الائق للفلاح من جهة و حتمية الحفاظ على الموارد الطبيعية من جهة أخرى. و بالمناسبة يجب التأكيد على ضرورة الاستئناس و الاعتماد على ما أنجز في الماضي من دراسات و بحوث. فهذه المقاربة هي عمل جماعي يحترم الاختلاف كقاعدة عمل و يبني لثقافة تشاركية قوامها مصلحة القطاع و هدفها المصلحة الوطنية ف "الاختلاف يثري و لا يقصي". و من هذا المنطلق يمكن أن نؤسس لثقافة حوارية تحترم مبدأ الحرية و حق التعبير. الدواعي الملحة لفتح حوار وطني حول الفلاحة : - مطالبة المهنيين الملحة بفتح هذا الحوار: يعتبر المهنيون و كل العاملين بالشأن الفلاحي أن الوقت حان بعد الثورة لانطلاق هذا الحوار. أما المشاركة في هذا الحوار و كيفية اجرائه فيمكن تناولها كالاتي : بالنسبة للمشاركة فهي تعود الى كل من يشتغل بالشأن الفلاحي: الهياكل المهنية, الباحثون, الفلاحون و السلط المعنية. وفي هذا السياق نلاحظ أن النقابة التونسية للفلاحين بادرت بمناسبة انعقاد مؤتمرها الوطني في مارس 2013 بالمطالبة بفتح حوار وطني حول الفلاحة و أكدت على ذلك في الائحة النهائية بمناسبة اليوم الوطني للفلاحة في 12 ماي 2013. و بالنسبة لكيفية اجراء الحوار يمكن ذلك بطرق عديدة وفق تراتيب عملية يتفق عليها مختلف المتدخلين. لكن من الأفكار التى يجب أخذها بعين الاعتبار هي ضرورة بدء الحوار على قاعدة العمل الجماعي المشترك انطلاقا من الحوارالجهوي ثم الوطني (التفكير على نطاق جهوي و التحرك على مستوى وطني). نعتقد أن تكوين لجان مختصة في كل قطاع على مستوى جهوي "لجان جهوية قطاعية" تتولى التفكير في واقع القطاع و كيفية النهوض به باعتبار الخصوصيات المحلية و المتطلبات الوطنية ثم تتويج ذلك على مستوى وطني في اطار "لجنة وطنية" تسوغ و تبلور المقترحات النهائية. - الشبكات الاجتماعية ساهمت منذ مدة في التأسيس لبوادر هذا الحوار. تشهد المواقع الاجتماعية حراكا ملحوظا بخصوص الشأن الفلاحي الذي يهم كل التونسيين. فالناشطون في هذا المجال من باحثين و فلاحين يجتهدون في تقديم الأفكار كل من موقعه لاثراء المشهد الفلاحي. و نلاحظ في الفترة الأخيرة تواتر نسق المطالبة بهذا الحوار. - المكانة التي تحتلها الفلاحة في الاقتصاد الوطني. فهي تساهم في الناتج الداخلي الخام بنسبة 12-13 % و تستحق منا تظافر كل الجهود. و لا أدل على ذلك من انه عندما تراجعت نسبة النمو في المجال الفلاحي ب3 %حسب الاحصائيات الحكومية تراجعت نسبة النمو الاقتصادي. فالثورة قامت على الكرامة و الحرية أي التشغيل و التنمية الجهوية و تشغيل شبابنا العاطل و خاصة أصحاب الشهائد. فالفلاحة يمكن أن تلعب دورا أكبر في حركة التنمية و التشغيل. مقترحات مطروحة على طاولة الحوار - مجلة الاستثمارات و "تحرير" المنظومة الاستثمارية من الدخلاء : لابد من اجراء تنقيحات على مجلة الاستثمارات الفلاحية فهي لم تعد تفي بالحاجة و لم تعد تواكب الواقع الفلاحي التونسي. نضيف الى ذلك ضرورة اعتماد عدالة جبائية و مالية تضمن للفلاحين المباشرين دون سواهم –الذين يمتهنون الفلاحة فقط- امتيازات يتمتعون بها وحدهم على خلاف بقية المستثمرين الفلاحيين. فالفلاح بالدرجة الأولى هو المدافع الأول عن القطاع. - موضوع الدعم بصفة عامة و الدعم في المجال الفلاحي بصفة خاصة. فالدعم يثقل ميزانية الدولة, موجه في مجمله الى المحروقات و المواد الغذائية البشرية و الحيوانية. أما نسبة الانتفاع به من طرف الفئات المحرومة فهي ضعيفة لذلك وجب اعادة النظر في هذه المنظومة بشكل يضمن لكل فئة و لكل قطاع حقه. فعلى المستوى العام يجب توجيه الدعم اللازم بشكل مباشر الى مستحقيه من الفئات المحرومة و بذلك نضمن الاستعمال الرشيد للمال العام. و يكون ذلك عبر المساعدة المالية المباشرة أو عن طريق أشكال أخرى تتفق و تتوافق عليها المجموعة الوطنية. ولنأخذ مثال الدعم الموجه الى المحروقات بالنسبة للفلاحين. هذه النسبة لم تحين منذ عشرين سنة و لم تعد تعبر عن جوهر الأهداف التى من أجلها قدم هذا الدعم, فنسبة 72 مليما دعما للتر الواحد من البنزين (مع العلم أن هذه النسبة تعطى للفلاحين حين كان سعر البنزين 270 مليما) تعتبرمهزلة و بهذا التمشي نحن نعتقد أن وزارة الفلاحة تعمل على الغاء هاته المنحة تدريجيا. - المديونية, المنظومة البنكية و التسوية العقارية: كل هذه المنظومات تتداخل و تؤدي الى عدم وضوح الرؤية عند الاستثمار. عديد المشاكل المتعلقة بالتسوية العقارية في أغلب الجهات يؤثر على الاستثمار. و في هذا السياق يجب التفكير من جديد في ملف الأراضي الدولية و كيفية استغلالها أحسن استغلال بضوابط موضوعية تحترم الكفاءة و المصلحة الوطنية. المنظومة البنكية بدورها يجب أن تراجع و أن تأخذ بعين الاعتبار خصوصية الواقع الفلاحي و في مرحلة أولى يجب التعامل مع مشكل المديونية بجدية فالقطاع الفلاحي يساهم في الناتج الداخلي الخام بنسبة أكبر من القطاع السياحي غير أنه لا يحظى سوى بربع الاموال المرصودة من طرف البنوك. لقد حان الوقت لطي صفحة "ماضي المديونية" و تصور منظومة جديدة تعطي المكانة التى تستحقها الفلاحة و تضمن لكل طرف في حلقة الاستثمار حقوقه. - ضرورة اعتماد التأمين الفلاحي : ندعو الى ضرورة مراجعة الاطار القانوني للتأمين الفلاحي حتى يكون أداة لضمان المحاصيل و الى ضرورة وضع اليات تقوم على أساس التضامن الوطني لمجابهة انعكاسات الجوائح الطبيعية. و اعتماد التأمين الفلاحي يعتبر من الاصلاحات الجوهرية التى يجب التفطن اليها فهو أساسي باعتباره مكونا من مكونات المنظومة الاستثمارية. - مشكل الماء في تونس في حد ذاته يتطلب منا فتح هذا الملف بسرعة : الكل يعلم أن الفلاحة بدون ماء أمر مستحيل و تونس كبعض البلدان الأخرى تواجه تغيرات مناخية هامة وتجابه نقصا في الموارد المائية. لذا وجب تظافركل الجهود و العمل على ايجاد الحلول الملائمة لواقعنا "المائي الفلاحي" و التشجيع على ترشيد استهلاك ماء الري. - قطاع الصيد البحري و المشاكل التى يعاني منها :هذا القطاع يتطلب التدخل العاجل و السريع ف 1300 كلم من السواحل تعطينا فرصة للتفكير في اليات جدية تضمن أكثر عدالة في استغلال ثروات البحر للعاملين في هذا المجال و تضمن للأجيال القادمة حقها في الثروات السمكية. أما حان الوقت لتجميع كل المتدخلين في الشأن البحري في هيكل واحد يضمن للجميع حرية العمل في ظروف أحسن؟ توريد الخرفان و ضرورة مراجعة منظومة الانتاج: أعتقد أن مسؤولية التوريد تعود الى الحكومة أولا ثم الى وزارة الفلاحة و وزارة التجارة ثانيا لأن وزارة التجارة تعتمد على معطيات وزارة الفلاحة. و ان مسؤولية توريد المنتوجات الفلاحية هي مسؤولية الحكومة من حيث أن هذا التوجه الاستيرادي فيه ضرب لمصالح الفلاحين و "تشجيعهم" على العزوف على امتهان مهنة تربية الماشية. و في هذا السياق لا ندري اذا كانت وزارة الفلاحة تعي خطورة هذا التوجه. فالتوريد غير المبرر اعلان واضح على عدم الاكتراث بمشاكل القطاع و مشاكل الفلاحة ككل من طرف وزارة الفلاحة و استقالة واضحة من المشهد الفلاحي. و في ما يخص الأداء العام لوزارة الفلاحة فهو لا يرتقي الى المستوى المطلوب, أداء ضعيف لا يستجيب لمتطلبات المرحلة الانتقالية بعد الثورة فعديد الاجراءات لم تكن في الموعد و الفلاح في انتظار طال. - التنمية الريفية كمحرك للتنمية الفلاحية. ان من الأسباب التى قامت عليها هاته الثورة الفوارق الاجتماعية بين الجهات فالتنمية في السابق لم تشمل الجهات الداخلية المحرومة و أقصت شباب الأرياف و خاصة منه أصحاب الشهائد. لذلك نحن نؤكد على ضرورة الاسراع بوضع برنامج شامل وواضح للتنمية الريفية في تونس سيكون له الأثر الايجابي من حيث التشغيل و خاصة أصحاب الشهائد و المرأة الريفية -الذي يجب بالمناسبة رد الاعتبار لها- و من حيث اعادة تمتين النسيج الاجتماعي في هاته المناطق. وبهذه الطريقة نساهم في تحقيق جزء من العدالة الاجتماعية عبر توزيع عادل للاستثمارات بين كل الجهات. هذه الاستثمارات ستنعكس ايجابيا على النمو الاقتصادي من خلال انتاج أوفر و تصدير أكبر. و في هذا السياق نعتبر أن المؤتمر الاقتصادي المتوسطي للتشغيل و التنمية المحلية الذي سينتظم في تونس يومي 17 و 18 سبتمبرخير ترجمة على ضرورة اعتماد هاته المعادلة "تنمية محلية – تشغيل" في المنظومة الاقتصادية ككل. في الختام لا بد أن نخلص الى وضع خارطة طريق "خارطة فلاحية" يلتزم بها كل العاملين في الحقل الفلاحي بشكل يضمن استمرارية القطاع و الحفاظ عليه. هذه الخارطة ستوضح التوجهات و الاختيارات الكبرى الفلاحية لبلادنا و هي بمثابة المرجع الذي نستند اليه. فلنرفع شعار "لا تغذية بدون فلاحين" و "لا مستقبل بدون فلاحة" و لنتفق على أن الوقت حان للعمل على اعطاء القطاع الفلاحي ما يستحقه من أهمية في دفع الاستثمار و التنمية. *فوزي الزياني :رئيس النقابة الجهوية للفلاحين بصفاقس