لن تتمكن من مغادرة مقعدك ولا أن تتحرك قيد أًنملة إلى أن ينتهي جينريك الفيلم الذي يمتد على ساعة وأربعين دقيقة، للمخرجة المالطية "ريبيكا كريمونا" وبطولة الممثل التونسي لطفي العبدلّي الذي يخوض مغامرة جديدة بعيدا عمّا اعتاد عليه العارفون به من لعب أدوار هزلية. "سيمشار" هو اسم الفيلم، وهو أيضا اسم مركب غادر به صاحبه ميناء وأرضا ولد وتربى فيها، نحو بحر طالما كان صديقا ومصدر رزق وحياة، غير أن هذه "الخرجة" بلغة الصيادين لن تكون كسابقاتها، فالبحر الذي كان دفّاقا مدرارا في عطاءه، استحال وحشا سرق منه والده... وابنه ذي الأحد عشر عاما، "تيو". كان "سايمون" الذي يجسد دوره الفنان التونسي لطفي العبدلي، يعيش كما يعيش قرناءه من الصيادين الصغار الذي بالكاد يحصلون ما يسمن ويغني من جوع، غير أنه يتميز بنزعة نحو التمرد ومقارعة السلطة ومناوشتها، سلطة تضيّق عليه سبل الحياة وتطبق قانونا سيودي به وبعائلته إن هو استكان له. يقرر "سايمون" أن يخرج كعادته للصيد رفقة أبيه ومهاجر إفريقي يدعى موسى، وابنه "تيو" الذي ينزل إلى البحر لأول مرة، وبعد أيام من السفر يتعطل المركب المنهك أصلا، وتشتعل فيه النار في الليل وفي غفلة من راكبيه الذين لم يتمكنوا من إخماد نار أتت على كامل القارب وبالكاد نجوا بأنفسهم مع كدمات لحقت الأب الذي تأخر في القفز ولم يتأخر لاحقا في الموت نتيجة ما أصابه من حروق. يبقى الثلاثة وسط بحر لا يرى له آخر، فأين ما تولّي وجهك تجد موجا يزيد في غربة هؤلاء وعزلتهم ويسلب منهم لحظة بعد لحظة ويوما بعد آخر أملا في النجاة، متشبثين بقطع من الفِلّين التي أبقتهم فوق الماء، إلى أن مرّت ثمانية أيام دون أكل أو شرب، ثمانية أيام كادوا خلالها أن ينجوا، غير أن المروحية التي تبحث عنهم لم ترهم في عتمة ليل دامس، ولقد كانوا لينجوا مرة أخرى لولا خوف ربان سفينة صيد لم يستجب لاستغاثتهم خوفا من قانون يحرّم ذلك ويمنعه، فترك ثلاثة من البشر وخلّفهم وراءه يواجهون مصيرا مجهولا، مصير قضى بموت موسى غرقا حين حاول اللحاق بالسفينة. تزيد وحشة الاثنين المتبقّين وتعالى الضغط على "سايمون" الذي يرى ابنه يتهاوى أمامه وقد بدأت التقرحات تأكل جسده النحيل، جسده الذي كان بركان نشاط على كامل الجزيرة، جزيرة مالطا. في الأثناء وعلى اليابسة، أم وزوجة لا تدري ماذا تفعل بالضبط، تحاول الاتصال بعائلتها عبر اللاسلكي دون رد، فتتزايد المخاوف لديها وتتجمع الشكوك في عقلها وقلبها الذين قاربا الانفجار والانفطار، فأي سماء تُظلّها وأي أرض تُقلّها دونهم. يجتمع البحارة ويقررون الخروج للبحث عنهم، رغم منع السلطات لهم، وقد علموا أن "سيمشار" قد ابتعد كثيرا، أكثر مما ينبغي له وأكثر مما اعتاد أن يبتعد، ويساعدهم ضابط في الحصول على رخصة الإبحار، فيغادرون... بعد مدة يتمكن هؤلاء من إيجاد "سايمون"، الذين وجدوه مغمى عليه، وحين يستفيق يمد يديه إلى اللوحة الممدّد عليها ابنه "تيو" ولا يجده... يصرخ مناديا إياه ولكن دون رد، لم يستطع الجسد الغض أن يقاوم وغرق في البحر، وإلى اليوم لم يتمكن أحد من استخراج جثته، غرق "تيو" تاركا وراءه دموع كل من عرفه وكل من شاهد قصته في هذا الفيلم. في الأثناء، قصة أخرى تعرّج عليها المخرجة، قصة مركب معد للشحن يأوي إليه عشرات المهاجرين غير الشرعيّين الذين تقطعت بهم السبل فقاربوا الهلاك لولا تدخل صاحب المركب الذي غلبت إنسانيته على مهنته لينقذهم ويوصلهم إلى جزيرة "لمبيدوزا" الإيطالية أين تتولى السلطات هناك "التعامل" معهم. يطرح الفيلم قضايا مشتركة بين سكان حوض البحر الأبيض المتوسط، أهمها قضية الهجرة غير الشرعية والقوانين المنظمة للهجرة بوجه عام والتي تؤدي إلى ترك المئات يغرقون ويكونون لقمة للأسماك مع أن إمكانية إنقاذهم واردة ولا تحتاج إلا للإرادة. من ناحية الأداء، تميز لطفي العبدلي في دوره سيما وأنه باللغة المالطية وأن "سايمون" هو شخصية حقيقية لا تزال موجودة على قيد الحياة، واستطاع أن يشحن المتفرجين بكتلة من المشاعر جعلتهم يتأثرون حد البكاء، فيما يعد "أدريان فاروجيا" الذي لعب دور "تيو" بمستقبل باهر كممثل، وهو الذي استطاع أن يكون رقما صعبا في هذا الفيلم رغم حداثة سنه. يحسب لهذا الفيلم كذلك جانبه التقني من حيث الموسيقى والتصوير خاصة رغم قلة الإمكانيات بحسب ما صرحت به مخرجته "ربيكا كريمونا"، صور التقطت برا وجوا وبحرا وحتى تحت الماء بدرجة وضوح عالية وبموسيقى مصاحبة مؤثرة، كل هذا كانت العوامل التي جعلت منه هذا العمل أيقونة حصدت ولا تزال الجوائز تلو الأخرى، من مالطا إلى ألمانيا إلى كندا.