تمرّ هذه الأيّام الذكرى الثالثة والتسعون لتلك الرسالة التي أصبحت معروفة في تاريخ العالم باسم «وعد بلفور»، والتي توجّه بها أرثر جيمس بلفور إلى اللورد روتشيلد، مؤكّدًا له باسم حكومة الملكة تعاطف بلاده مع المطامح الصهيونيّة، وتعهّدها بمنح الشعب اليهوديّ وطنًا قوميًّا في فلسطين!! الواقعة دخلت التاريخ لكنّ نتائجها مازالت تصنع التاريخ! ولولا بشاعة الأمر لقلنا إنّ من الطريف أن ينعقد بعد ثلاث سنوات من تلك الرسالة، مؤتمر ضمّ أربعين موظّفًا بريطانيًّا ساميًا، دعا إليه وزير المستعمرات البريطانيّ في ذلك الوقت، وينستون تشرشل، مُطلقًا عليه في سخريته المعهودة اسم «مؤتمر الأربعين حراميًّا»! ولاشكّ أنّه كان يعني ما يقول! استخفّ عرب كثيرون بهذا «الوعد» في وقته...وكان سكّان فلسطين يناهزون 750 ألف نسمة حسب إحصائيّات تلك الفترة...ورجّح الكثيرون أنّ الديموغرافيا ستتكفّل بتحويل هذا «الوعد» إلى بُخار! ثمّ اتّضح خطل هذا الرأي. وها هي منظمة التحرير الفلسطينية تحمّل بريطانيا المسؤولية السياسية والأخلاقية عمّا حدث بدايةً من عام 1948. وها هو رئيس دائرة شؤون اللاجئين في المنظّمة يقول في بيان الذكرى الثالثة والتسعين «إنّ ما ألمّ بالشعب الفلسطيني من أذى كان نتاجاً لوعد بلفور المشؤوم الذي أعطته بريطانيا عام 1917 لليهود لإنشاء وطن لهم على أرض فلسطين». المشكلة أنّنا كمن لا يفهم أو لا يريد أن يفهم الدرس! ولو سمحنا لأنفسنا بشيء من السخرية لزعمنا أنّ التاريخ نفسه لا يريد أن يسمح لنا بالاستفادة منه! الأمر الذي قد تبرهن عليه طرفة أخرى من تلك التي يبدع التاريخ في اقتراحها علينا... فكلّنا يذكر اتّفاقية «سايكس بيكو» التي تقاسم بواسطتها كبار العالم تركة الإمبراطوريّة العثمانيّة! لكنّ قلّة يعرفون ربّما أنّ مارك سايكس، أحد طرفي الاتّفاقيّة، توفّي سنة 1918 أي سنةً بعد وعد بلفور، ضحيّة الأنفلونزا الإسبانيّة (H1 N1)! وقد تمّ دفنه في تابوت من الرصاص! ولمّا كانت الأنفلونزا الإسبانيّة قريبة ممّا يُعرف اليوم باسم أنفلونزا الطيور (H5 N1)، فقد اتّصل أحد كبار أطبّاء المستشفى الملكيّ بلندن سنة 2007 بورثة الديبلوماسيّ الراحل، مقترحًا عليهم إخراج الجثّة لأخذ عيّنات قد تساعد في إعداد علاج يجنّب العالم وباءً جديدًا! وقد وافق الورثة مشكورين على ذلك إلاّ أنّ الجثّة «لم توافق»، أي لم تفد الأطبّاء بشيء! وكأنّ الرجل يصرّ على أن يظلّ ضارًّا حيًّا وميتًا! المغزى من كلّ هذا أنّ الاتّفاقيّات السايكسبيكويّة والوعود البلفوريّة لا تنقطع، وهي اليوم لا تمرّر في الاتّفاقيّات أو في الرسائل بل في القمم والمفاوضات! لكن لا أحد يبدو منتبهًا ولا أحد يريد أن ينتبه إلى وبالها وسمومها! فهل نظلّ محتاجين كلّ مرّة إلى 93 أو 100 سنة كي نعرف أنّ البئر بئر؟! طبعًا لم ينس بلفور في رسالته تلك التأكيد على أنّ توطين اليهود في فلسطين لن يكون على حساب الحقوق المدنيّة والدينيّة لأيّ من المجموعات غير اليهوديّة الموجودة في فلسطين! كما أنّه يجب أن لا يمسّ شيئًا من الحقوق والوضع السياسيّ الذي يتمتّع به اليهود في أيّ من البلاد الأخرى!! اليوم وبعد مرور قرابة القرن على هذا الوعد الغريب، نستطيع أن نسأل: هل أنجز حرٌّ ما وعد؟ سؤال يتطلّب أسئلةً أخرى: هل هو وعد حرّ؟ وهل يعد الحرُّ أحدًا بما لا يملك؟ أم أنّه وعدُ مستعمر مستبدّ؟ ومن غيرُ المستعمر المستبدّ يسمح لنفسه بالتصرّف في أملاك غيره على هواه؟ والحقّ أنّ الوعد أُنجز في كلّ ما يخصّ توطين اليهود في فلسطين، حيث هم الآن مجرمون بلا عقاب! كما أنّه أُنجز في كلّ ما يخصّ عدم المساس بالحقوق والوضع السياسيّ الذي يتمتّع به اليهود في العالم...حيث هم الآن أقوى ما يكونون. أمّا في ما يخصّ حماية الحقوق المدنيّة والدينيّة للشعب الفلسطينيّ الذي تكرّم عليه بلفور فأطلق عليه اسم المجموعات غير اليهوديّة الموجودة في فلسطين، فلا شيء أُنجز! هكذا نستطيع القول: أنجز المستعمر المستبدّ ما وعد! أمّا الحرّ والمتحرّر والمحرّر والراغب حقًّا في الحريّة فمازلنا ننتظر وعده! ولولا اختلاف السياق، ورفضُنا الربط بين القوّة والاستبداد، لقلنا له ما قاله عمر بن أبي ربيعة قبل قرون: ليت هندًا أنجزتنا ما تعدْ وشفت أنفُسنا ممّا تجدْ واستبدّت مرّةً واحدةً إنّما العاجز من لا يستبدّ...