بقلم: فاطمة بن عبد الله الكرّاي عندما تجالس «سايكس» و«بيكو» وزيرا خارجية كل من بريطانيا وفرنسا وأبرما الاتفاقات السرية سنة 1916 لم يكونا في غفلة من الامر الذي يتدبر لفلسطين، وأقصد «وعد بلفور» المشؤوم الذي أطلقته بريطانيا التاج عن طريق وزيرها للخارجية خريف سنة 1917. فقد جاء «الوعد» بعد سنة من اتفاقيات «سايكس بيكو» التي قسّمت الوطن العربي الى فسيفساء تقسيم يخدم مصالح الاستعمار الاوروبي لجل مناطق العالم. ولقد كان «الوعد» و«الاتفاقية» على صلة بعضهما ببعض من حيث الزمن والمصدر والموضوع. كما ان اتفاقيات «سايكس بيكو» التي توفقت في ما توفقت في تعميق العداء بين العرب والأتراك، زادها «كمال أتاتورك» تعميقا وسوّغ لها مبرر الحملة العربية ضد التتريك، وكأن «التغريب» هو الحل... هكذا بدا المشهد الجغرافي السياسي بداية القرن الماضي... وطنا متراميا على بطن أرض زاخرة بالمعادن والخيرات التي لا تزال صالحة وضرورية للبلدان الصناعية الاستعمارية ورقعة جغرافية كما النسر المتداعي للسقوط من فرط الضربات، لها أكثر المنافذ استراتيجية في العالم. هنا يخطئ من يظن ان كلا من «سايكس» و«بيكو» و«بلفور» الذين كانوا عناوين صارخة للاعتداء على الامة، يخطئ من يظن أنهم لم يتنبّأوا بما آل اليه مصير الامة. اذ بمجرد تصفّح فحوى «اتفاقيات سايكس بيكو» او نص «وعد بلفور» يتفطن المرء دون كثير عناء ان في الأمر مخطط طويل المدى... وأن كل ما جرى في في فلسطين وحولها، بما في ذلك الثورة ومآل الثورة ومواقف العرب ووضع الأمة وانعدام بصيص أمل في دولة عربية موحدة، كلها كانت مؤشرات وتداعيات معلومة من صانعي «الاتفاقية» و«الوعد» المشار اليهما آنفا.. بل أكثر من ذلك، فإن الاستعمار القديم منه والجديد، عملا في تجانس تام وفي نوع من التواصل لم يكن اي منظّر في العلوم السياسية ليتنبأ به من قبل. فقد تسلّمت الامبريالية العالمية بشقيها الليبرالي (الولاياتالمتحدةالأمريكية زعيمة) والشيوعي (الاتحاد السوفياتي زعيما) مشعل الهيمنة ونكران حق فلسطين في التحرر وحق الأمة في التوحد بشيء من الهدوء والسلاسة حين تربّع الثنائي القطبي، مشهد السياسة في العالم، معوّضين أوروبا الاستعمارية العجوز، ومحور اليابانألمانيا، الذي مشى بخطى دراماتيكية على سطح الأمبريالية والهيمنة فنالا ما نالا من عقاب «الأخوة الأعداء».. لعلّ التوقيت الذي اختارت فيه الامبريالية والصهيونية العالمية، في الانقضاض على فلسطين ساعد المعتدين كثيرا على تنفيذ المخطط وبسرعة. لكن ما هو ثابت في كل هذا ويقع اغفاله في كل مرة تجيء لحظة المحاسبة للمجرمين في حق فلسطين هو ان الاتحاد السوفياتي الذي كان يمثل في آن واحد: رأس حربة الثورة العالمية على السائد والقاعدة المتقدمة للعلمانية، كان متواطئا مع النهج الظلامي الذي يعتمد الأسطورة في عملية السطو على فلسطين.. وأقصد مزاعم الصهاينة الذين حلوا بفلسطين هجرة من كل حدب وصوب وكيف اعتمدوا الأسطورة الدينية لإعلان دولة «إسرائيل» في فلسطين الى أن يصل الأمر هذا اليوم، الى إعلان «نتنياهو» جهارا بربط التفاوض مع الفلسطينيين باعتراف هؤلاء بيهودية الدولة الاسرائيلية! هذا السؤال الذي يحمل حيرة فلسفية تجاه حقيقة موقف العلمانيين من «دولة الكيان الصهيوني»... كما أن سؤال الحيرة نفسه، يطال اليوم وأمس، «رجال القانون» ومنظري القانون الدستوري: كيف لدولة أن تكون انطلاقا من وثيقة تصويت داخل الاممالمتحدة... بلا تاريخ ولا أرض ولا شعب؟! أما السؤال المركزي والمحير في كل هذا الملف هو كيف توفقت كل الثورات في العالم وكانت أشرسها وأطولها نفسا الثورة الفيتنامية (على اعتبار أن فيتنام بالذات تعاقب عليها استعماران... كما فلسطين... الى حد ما...)، كيف توفقت كل هذه الثورات في الانتصار على جلاديها وعلى مستعمريها، الا الثورة الفلسطينية؟... من خلال رصد بسيط لمحطات الثورة والتفاوض يمكن التفطن وبسهولة، الى معطى أساسي: الثورة الفلسطينية انطلقت في العراء... انطلقت وحيدة... وانطلقت بلا سند: أي بلا ظهر يحميها... هذه محصلة الكلمات التي قالها أحد زعماء الثورة الفيتنامية الى زعماء الثورة الفلسطينية من الرعيل الاول... كان الثائر الذي تحول الى سياسي منتصف السبعينات، يحدث الفلسطينيين الثائرين بحزن وبرأفة على حالهم وحال ثورتهم... ثورة اكتسبت من الجمال الفكري... والوضوح في الرؤية ما جعل ساحات باريس وفيينا ونيكارغوا... تتغنى بها وتبوئها مكانة مرموقة، حد اعتبارها النمو ذج وطليعة الثورة العالمية على الامبريالية والصهيونية والهيمنة. وللتدليل استقطبت الثورة الفلسطينية، منظمات وشخصيات عالمية ثورية من اليابان الى ألمانيا مرورا بفرنسا وأمريكا اللاتينية... ولعل المناضل الياباني «أكاموتو» أفضل مثال على ما قدمت... الى أين تحول بريق الثورة الفلسطينية؟ ومن تآمر عليها ومن عمل على تدجينها؟ هذا ما نراه لاحقا ضمن ثلاثية: الثورة والسلام والمفاوضات.