أشياء كثيرة تحدث في هذا العالم وتهمّ البلاد العربيّة تحديدًا، لكنّها تمرّ في ما يشبه الصمت وكأنّها تحدث في المرّيخ! وكأنّ المشهد الإعلاميّ والثقافيّ العربيّ حجارة صمّاء، لا تشدّهُ إلاّ فضائح نجوم الشوبيز والفوتبول، ولا يُثيرُهُ إلاّ عراك ديَكة الساحات العربيّة التي أهملت العمق والقيمة والجدل الحقيقيّ واستسلمت للغوغائيّة والتهريج! حتى الاستنكار، وهو أقلّ الواجب، أصبح عمْلةً نادرة في هذه المرحلة، بالمقارنة مع مراحل سابقة! «اِسْتَنْكِرُوا»! هكذا جاء عنوان أحد الكتب الجديدة الصادرة في فرنسا في المدّة الأخيرة. وهي دعوة قد نناقش صاحبها في الكثير، دون أن نختلف معه في جوهرها المشترك: أي في أنّ مقاومة ما هو لا إنسانيّ في واقع الإنسان تبدأ بالاستنكار، وتحتاج إلى الاستنكار، بوصفه الدرجة الأولى في سُلّم رفض العتمة، والشروع في تغييرها. في هذا الكتاب يعترف ستيفن هيسل (لأسباب قد تتعلّق بسيرته الشخصيّة) بأنّ مرحلتنا الراهنة أكثر غموضًا ممّا سبقها، بالنظر إلى الالتباس بل التلبيس المُعمّم الذي يغلب على كلّ شيء، بالمقارنة مع النازيّة مثلاً، التي كان من البديهيّ أن تندفع الضمائر الحيّة إلى استنكارها. لكنّه يعترف أيضًا بأنّ مواضيع الاستنكار ليست أقلّ ممّا كانت. يكفي أن نتأمّل في مصير المعاهدات والقوانين والسياسة العالميّة وما يطبعها من تلاعبٍ بالمكاييل وتعدّد في الموازين. يكفي أن ننظر إلى ما يفصل بين فقراء العالم وأغنيائه وبين حُكّامه ومحكوميه، وما يتهدّد الأرض من تلوّث ونفايات سامّة، وما يدور في كواليس الاقتصاد العالميّ من نهم وتوحّش، وما يغلب على إعلام العالم من تضليل ودجل. ليس من شكّ في أنّ البعض قد يهزّ كتفيه مشيحًا عن كلّ هذا، قائلاً إنّ الاستنكار طحنٌ للهواء. ولعلّ لديه في بعض ما يحدث برهانًا على صحّة كلامه. فماذا فعل الاستنكار حتى الآن لفلسطين ولبنان والعراق والصومال إلخ... لكنّ هذا الموقف السلبيّ يقع هو نفسه في دائرة ما لابدّ من استنكاره. ممّا يذكّرني بعبارة جاك آميو: «الاستنكار موجّه تحديدًا ضدّ أولئك الذي يسعون لغيابه». هؤلاء جزء من الممارسات المسؤولة عن كلّ ما يحدث. فليس لأحد أن يرفض قهرًا أو ظلمًا إذا لم يبدأ باستنكاره. وليس لأحد أن يصمد في وجه محنته إذا لم يشعر بأنّ محنته موضوع استنكار معاصريه. ومن ثمّ فإنّ غياب الاستنكار مشاركة في الجريمة، ودليل على موت الوعي والضمير، ومؤونة يقتات منها التوحّش والهمجيّة المُسلّحة بالحداثة التكنولوجيّة. والحقّ أنّ في المسألة نظرًا حتى من هذه الزاوية. فأين صوت الاستنكار في ضجّة ما يحدث؟ وهل نجد استنكارًا مساويًا لحجم الفجائع التي تصلنا أخبارها يوميًّا من كلّ حدب وصوب، على امتداد الأرض العربيّة والكونيّة؟ وأين أصوات الاستنكار بالمقارنة مع أصوات الإثارة الرخيصة والعراك البهيميّ واللهو الفارغ والصراع على الفُتات الاستهلاكيّ الرخيص؟ لقد غلبت على المشهد العالميّ أصوات الطبول والمزامير وخمدت فيه حتى أصوات أضعف الإيمان: الاستنكار! طبعًا للاستنكار أكثر من طريقة، وأكثر من وسيلة. كسر الحصار على غزّة وجه من وجوه الاستنكار. وكذلك بيان المثقّفين العرب المسلمين لشجب ما يتعرّض له بعض المسيحيّين في بعض البلاد العربيّة. وكذلك العمل الحزبيّ والانخراط في مؤسّسات العمل المدنيّ. وكذلك الفنّ والكتابة. يقول جوفينال: «لو لم تمنحهم الطبيعة موهبة الشعر، لأملى الاستنكار على الشعراء أجمل قصائدهم». والحقّ أنّ لكلّ طريقته ووسيلته في الاستنكار. فهي ممارسة شبيهة بحرب المواقع، يخوضها كلّ حسب إمكانيّاته. المشكلة أنّ البعض يمارس تعدّد المكاييل والموازين حتى في هذا المجال. يستنكر ما يحدث للمسيحيّين في الشرق ويتغافل عمّا يحدث للمسلمين في الغرب! يستنكر عمليّات المقاومة ولا يستنكر أعمال الاستعمار! كأنّ استنكاره أوراق اعتماد يقدّمها لهذه الجهة أو تلك! وهو ما ذهب إليه الفنّان الساخر غي بيدوس حين قال: «البعض يستنكر بالتقسيط، أمّا أنا فأستنكر بالجُملة». من ثمّ أتّفق مع الرأي القائل «إنّ واجب الاستنكار غير مشروط بالجدوى»...فهو مطلوب في ذاته. وإذ نفعل فنحن نستنكر ما يتطلّب الاستنكار دفاعًا عن الحياة فينا. دفاعًا عن شعلة الإنسانيّة الصامدة في حيوانيّتنا المزمنة. دفاعًا عن حقّنا في عدم الوقوع فريسة لأوّل درجات الموت: اللامبالاة.