تبدو المنطقة كسماء ملبدة بغيوم أزمات متعددة قادمة معا، كما لم تكن عليه الحال ربما منذ أكثر من نصف قرن، وربما يكون التشابه قابلا للمقارنة مع ما عرفته المنطقة مع أزمة الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي. في تلك الأيام شهدت المنطقة ولادة إسرائيل ككيان سياسي على حساب محنة الشعب الفلسطيني وعذاباته، فيما تكرس تقسيم المنطقة إلى مجموعة من الدول مع إعلان الإستقلال الوطني المتلاحق لكياناتها، بينما كانت بوادر أزمات إقتصادية وإجتماعية تلف بحبلها خناق الطبقات المنتجة والقوى العاملة، وغياب آفاق واضحة لمواكبة ومواجهة هذه الأزمات. هذه الفترة تبدو أشد تعقيدا، فالصراع المركزي الذي كانت القضية الفلسطينية محوره لستة عقود مضت، وفرض نفسه على السياسة المحلية لكل بلد عربي، يدور في حلقة مفرغة بعد جولات من الحروب والتسويات. ويبدو الحل أبعد من اي وقت مضى، وترتبط بهذا الفراغ العلاقة المركزية للبلاد العربية بالدولة الأعظم في العالم، الولاياتالمتحدةالأمريكية، مهما حاول بعض المفكرين والمعنيين الفصل بين المستويين، فالمزاج الشعبي يزداد شعورا بالعداء للسياسات الأمريكية بسبب موقفها من القضية الفلسطينية، والتصاقها الفاقد لأي شرعية أخلاقية بالسياسات الإسرائيلية العارية من اي غطاء أو تبرير يبعد عنها صفة الجريمة المعلنة والمتمادية، مما يعني نظاما عالميا قائما على العنصرية والجريمة، يفقد كل جاذبية مفترضة في نظر الشعوب ويضعها في حالة القلق والتوتر التي تنشأ عنها الفوضى عادة ويتزعزع بسببها الإستقرار. وعلى جهة موازية لهذا كله يتغير المشهد الإقتصادي الإجتماعي في البلاد العربية بلا إستثناء، رغم تزايد الموارد الناتجة عن إرتفاع اسعار النفط، حيث يعيش العالم كله تداعيات الأزمة المالية الكبرى الناجمة عن كساد الإقتصاد الأمريكي، ونضوب الكثير من موارد قوته التي إستنزفت في حروب لا طائل منها، وضعت الإقتصاد الأعظم في الدولة الأعظم أمام مأزق بنيوي غير مسبوق، وخلافا لظاهر الأشياء فقد ترتب عن هذه الأزمة ترددات بطيئة طالت كل الإقتصادات العالمية، ولو بتفاوت المدى الزمني للشعور بآثارها وتبدل درجات الإهتزاز التي حملتها، لكن الخطير فيها أنها بنيوية أيضا، أي من النوع الذي لا تمكن مواجهته بالإجراءات الإدارية، ومثلما دخلت العديد من دول الإتحاد الأوروبي في مدارات هذه الأزمة متأخرة عن توقيت نشأتها وتفاعلاتها الأمريكية، تبدو ساعة الترددات العربية للأزمة في طريق التحول إلى منخفضات قاسية وعواصف عاتية، بدءا من توقف دوران دولاب الهجرة التي كانت تمتص جزءا كبيرا من فائض العمالة، مرورا بتراجع واردات التحويلات الناتجة عن التصدير والمهاجرين معا، بسبب كساد الإقتصادات الغربية، وصولا إلى نضوب الموارد الحكومية اللازمة لملاقاة التفجرات الاجتماعية متزايدة الحضور. يجري كل ذلك فيما التشكيل السياسي للنظام العربي المولود مع الإستقلال في حقبة الخمسينات لم ينجح في بناء آليات سلسة لإمتصاص الأزمات والإحتقانات، ومصادر القلق والتوتر وبالتالي نقل الحياة السياسية من الشارع إلى المؤسسات، وعندما تتعاظم عناصر اليأس والتوتر والقلق تصبح الحاجة لبنى سياسية تعطل مفاعيل المزيد من التدهور قضية وطنية وقومية، لا يجوز مقاربتها بمنطق الفئوية الضيقة سواء من قوى الحكم أو المعارضة، فلا القوى الحاكمة يحق لها الإفتراض أن مزيد الإنفراد والتجاهل وإدارة الظهر يمكن أن يعالج التصاعد في التوتر القادم لا محالة، ولا قوى المعارضة يحق لها مقاربة الأزمات بمنطق التوظيف المصلحي لتحقيق مكاسب ضيقة وتسجيل نقاط واستثمار القلق بتشجيع الذهاب إلى الفوضى. وبمقدار ما يبدو الإستمرار وفق القواعد القديمة لصناعة الإستقرار مستحيلا، يبدو الإسهام في زعزعة الإستقرار بحسابات التوظيف السياسي الضيق مخاطرة غير مضمونة النتائج، وتتقدم معادلة واحدة قابلة للحياة، هي معادلة الوفاق الوطني التي تحتاج إلى درجة عالية من روح المسؤولية والعقلانية لدى اللاعبين السياسيين حكاما ومعارضين. التوترات التي ستصاحبها أصوات مرتفعة تأتي بينما تتجه بعض دول المنطقة نحو إختبارات قاسية لوحدة كياناتها بسبب فشل محاولات الوفاق الوطني، ومهما بدت اللعبة الدولية طرفا في تشجيع مناحي التقسيم فإن الفشل الوطني يبقى السبب الرئيسي في هذه المسارات، التي تبدو قابلة للتكرار في حال إندلاع ازمات إجتماعية أو سياسية تظهر أنها تحت السيطرة في بداياتها لكنها سرعان ما تتحول إلى عنصر تهديد للإستقرار فمصدر للفوضى لتستقر على إطار يهدد الوحدة الوطنية للكيانات. الخيارات التي عجزت عنها أشكال النظام السياسي العربي في الخمسينات أدت إلى ظهور تغييرات في طبيعتها، لكنها هذه المرة تهدد بظهور تغييرات في الجغرافيا، التي ستشهد إذا كان التجاهل والإطمئنان الخادع سيدي الموقف، ولادة المزيد والمزيد من التصدعات على المشهد العربي، الذي سيكون أبعد ما يكون عن التغيير الواهم الذي قد تتامل حدوثه بعض قوى المعارضة العربية. إن الذهاب إلى حوار وطني شامل وبلا شروط مسبقة يبدو نداء وطنيا عاجلا في كل بلد عربي، لصياغة ميثاق وفاق وطني جديد يشكل وحده شبكة الأمان في وجه العواصف القادمة والأعاصير التي تتجمع مكوناتها.