تمر بلادنا بفترة دقيقة جدا من تاريخها الحديث أو لعلها الفترة الأكثر دقة بعد الاستقلال. وككل البلدان الخارجية لتوها من أتون الدكتاتورية تحتاج نخبها وبقية مواطنيها إلى دربة متأنية للتعود على التعايش والقبول بوجود الآخر والتخلص من العمى الايديولوجي الذي تربينا عليه وغذته ماكينة النظام وآلياته المتعددة. ففي تاريخنا العربي الحديث حيث أتيحت فرصة الحكم لمختلف التيارات السياسية العربية بشكل أو بآخر كانت تجاربنا مدعاة للقطع معها والتبرؤ منها فالاشتراكيون غادروا الحكم في اليمن الجنوبي لنجد صحراء ثقافية ونكلوا بخصومهم وبرفاقهم ولم يكن التيار القومي العربي بشقيه الناصري والبعثي بأفضل حال رغم بعض الانجازات التي قد تحسب للناصرية والتي لا يمكن أن تنسينا زوار الفجر غير أن كلا الشقين مارسا فاشية فظيعة وبصفة خاصة البعثيين السوري والعراقي من حماه إلى حلبجة والتيار الاسلامي هو الآخر لم يكن أفضل حال حيث انقلبت الجبهة الإسلامية في السودان على تجربة ديمقراطية وأعملت السيف في خصومها بوجود الترابي وبعد أن أخرجه تلاميذه وزجوا بمعلمهم في السجن وفي النهاية قسم السودان وشرد شعبه وحتى حركة «حماس» سجلها في التعامل مع الحريات الفردية والجماعية في قطاع غزة تشوبه عديد الشوائب ولا تختلف عن شقيقتها اللدود فتح الليبرالية في الضفة الغربية. إذن مرجعيتنا العربية في التعايش مخيفة وتجربتنا تونسيا غير موجودة فالانتخابات لم تبدأ ومزقت لافتات الخصوم السياسيين في أكثر من مدينة واقتحمت الاجتماعات وها هي العروشية والجهوية تطل برأسها من جديد والخلافات الماقبل مدنية تبرز في غياب المشروع الوطني الجامع. شعبنا المسالم الذي عانى من الظلم والاجتثاث الثقافي ومن القهر الاقتصادي والاجتماعي في حاجة إلى إجماع حول حد أدنى يضمن أن لا تنتكس هذه الثورة التي فتحت آفاق كبيرة للنمو والازدهار. يجب على أغلبية أحزابنا ونخبنا بمختلف مشاربها الفكرية والثقافية ان تقرّ نهائيا بأن هذا البلد عربي ومسلم ومنفتح وحداثي وفي هذه البلاد تحترم الحريات الفردية والعامة والمبادرة الفردية وتتكفل الدولة بالقطاعات الاستراتيجية وبالصحة والتعليم المجاني والتغطية الاجتماعية ولا يعيش بعد الثورة أحدنا على الصدفات. بناءا على ما تقدم وحتى نضمن عدم الانتكاس تبنى جبهة وطنية تتولى دخول الانتخابات أو حتى بعد الانتخابات وتفرز حكومة أغلبية مريحة تتولى السلطة لدورتين متتاليتين يكون شعبنا قد تعايش مع الاختلاف وكون أطفالا على القيم الديمقراطية وحققنا قفزة نوعية في التنمية تعبأ فيها كل الموارد المادية والبشرية ونقيم علاقات صداقة مع الدول ترتكز على ثوابتنا الوطنية والقومية ومصالحنا. وتصبح تونس منارة في الوطن العربي ورابع دولة إسلامية تدخل العصر بعد أندونيسيا وتركيا وماليزيا البلدان التي سبقت بلادنا في دخول الحداثة باقتباسها للنموذج الديمقراطي حيث قطعت مع النماذج الجاهزة والغلو الايديولوجي الذي جلب للأمة الكوارث والنكسات بجبهة عابرة للايدولوجيا وللطبقات يتكون حولها إجماعا وطنيا تبعث النخب التونسية من خلاله رسالة إيجابية لشعبنا يقبر فيه الخوف والتوجس المتبادل. قد يبدو هذا المشروع مغرقا في المثالية لبعض العاملين على القفز على ما يحسب أنها الغنيمة ولكن عقلاء شعبنا يعرفون ان المرحلة لا يتحملها طرف واحد وحتى إذا غامر وحصل على شرعية فسيغرق ونغرق معه في نفس المركب فحبل النجاة والسبيل إلى بناء تونس العربية المسلمة صاحبة المشروع المتميز والمجتمع الحديث المحكوم بالكفاية والعدل ونموذج الحكم الراشد هو في الانخراط في هذه الجبهة الرائدة والقاطرة التي تؤمن التعايش والاختلاف والاجتهاد. فلنبدأ بالقواسم المشتركة وهي كثيرة ولنغلب الضرر الأكبر لنترك ما هو مختلف عليه لنقاش هادئ تفتح له النوادي ودور الثقافة ومقرات أحزابنا الوطنية حيث تكرس المواطنة وتتعلم أجيالنا جدلية الاختلاف والوحدة بعيدا عن مخازن الشجن الايديولوجي التي تربينا فيها نحن معشر الكهول.