يبدو أن العد التنازلي لانهيار الامبراطورية الأمريكية أو على الأقل لنهاية هيمنتها وانفرادها بالسيطرة على العالم قد بدأ. والواضح أن إرهاصاته قد أصبحت بادية للعيان ولا يمكن أن يخطئها متابع. هاجس بات يؤرق مسؤولي الادارة الأمريكية وصانعي سياساتها ومنظّريها وهم الذين كانوا قد اطمأنوا الى قرن أمريكي (القرن الحادي والعشرون) أغراهم بأن يتطلّعوا الى ألفية أمريكية من الهيمنة على العالم ومن الأحادية القطبية. ولأن هذا الحلم بدأ يترنّح ولأن القبضة الأمريكية بدأت ترتخي ولأن الأقطاب ما فتئت تظهر هنا وهناك على الساحة الدولية فإن أمريكا وبخاصة أمريكا ترومب قد بدأت تفقد صوابها واندفعت توجه اللكمات وتوزع الضربات يمنة ويسرة حتى لأقرب حلفائها مثل الاتحاد الأوروبي وتركيا العضو الرئيسي في حلف شمال الأطلسي دون نسيان أطراف دولية كانت الى وقت قريب تغازلها وتطلب ودّها (وأسواقها) مثل الصينوروسيا. والمتابع يدرك دون عناء أن المطبخ السياسي الأمريكي حين جاء بالرئيس ترومب الى سدّة البيت الأبيض كان قد حسم أمره بالتوجّه الى سياسة القبضة الحديدية وتمشّي الفيل في دكان من الأواني البلورية في مسعى واضح ل«تأديب» المنافسين ووأد ارهاصات النظام العالمي الجديد القائم على التعدّدية القطبية والذي بدأ يظهر مع اشتداد أعواد كيانات مثل الاتحاد الاوروبي وروسياوالصين أو حتى مثل ايران وتركيا اللتين تجدان نفسيهما حاليا في عين الإعصار الأمريكي. واذا نظرنا الى التطورات والاحداث والوتائر التي توجه بها ادارة ترومب الضربات هنا وهناك فإنه يسهل إدراك المهمة التي جيء من أجلها بالرئيس الصلف والمتغطرس دونالد ترومب.. كما يسهل ادراك ان العقوبات الاقتصادية هي الخيار الأمريكي الأول لإخضاع الأمم والشعوب وإعادتها تحت سلطان الهيمنة الأمريكية. ولا يهم إذا كانت الغاية إنقاذ هيبة أمريكا وإنقاذ النظام العالمي أحادي القطبية أن تم نقض اتفاق نووي مع ايران وقعت عليه أمريكا الى جانب 5 دول عظمى وزكّاه مجلس الامن الدولي. ولا يهم إن تلقى التنين الصيني لسعات بسياط التعريفات الجمركية وتلقت روسيا حزمات من العقوبات ووجهت ضربات في الصميم الى الاقتصاد التركي. المهم ان يعود الجميع الى «الصف» وأن ينسوا حلم إقامة نظام عالمي جديد متعدّد الاقطاب تعود فيه أمريكا دولة مثل الدول وليس دولة فوق كل دول العالم. فات ترومب ومنظّرو ادارته وكل اللوبيات الدافعة نحو انفلات الدابة الأمريكية ان حركة التاريخ لا تعود الى الوراء... وأن انهيار الامبراطوريات يبدأ هكذا حين تنسى الأسس والمبادئ وحين يتجرّد الحكام من كل شعور انساني فلا يبقى لهم الا حب الهيمنة وحب امتصاص دماء الشعوب وتركيعها.. وهذه «رياضات» جربتها حضارات قديمة ساءت. وبادت.