يُبرز مِثال علي بن زياد التّونسي مدى أهمّيّة مدينة تونس في بداية تاريخ المذهب المالكي بإفريقيّة. وبابن زياد، وبروايته للموطّأ، وبفتاويه، وفتاوي زملائه التّونسيين الّذين لقوا مالك بن أنس مثل أبي مسعود بن أشرس، وعبد الملك بن أبي كريمة، وعيسى بن شجرة، وبفتاوي تلاميذهم جميعا، تكوّن ما يمكن التّعبير عنه بالمدرسة المالكيّة التّونسيّة. والطّريف في هذه المدرسة أنّها كانت متميّزة عن المدرسة المالكية القيروانية. وقد كان علماء القيروان يعترفون بها على الأقلّ خلال القرن 3ه/9م. من ذلك أنّ محمّد بن سحنون (ت. 256/870) ذكر في إحدى فتاويه ما يلي: «وقال التّونسيون عن علي بن زياد وغيره». على أنّ هذا التّميّز سنلاحظ آثاره في العهد الحفصي. فقد أشار روبار برنشفيك إلى نوع من التّنافس آنذاك بين أتباع المدرسة المالكيّة التّونسيّة وأتباع المدرسة المالكيّة القيروانيّة. وهذا لا يعني أنّ إشعاع المدرسة المالكيّة التّونسيّة تواصل طويلا بعد وفاة علي بن زياد وطبقته، بل يبدو أنّ هذه المدرسة توجّهت شيئا فشيئا نحو الذّبول والتّهميش، لفائدة المدرسة المالكيّة القيروانيّة، لتعود لها الحياة ثانيّة في العهد الحفصي. هل تواصل النّشاط الثّقافي بصفة عامّة في مدينة تونس في عهد بني خراسان ؟ من المؤكّد أنّ مدينة تونس قد غنمت كثيرا على المستوى الثّقافي من سقوط القيروان. فكثير من خزائن الكتب والمجلّدات انتقلت إليها، كما انتقل إليها عدد من علماء القيروان وفقهائها وأدبائها. ودون هذا كيف نفسّر قولة ابن خلدون في أحمد بن عبد العزيز (500522/11061128): «وكان مجالسا للعلماء محبّا فيهم». أمّا في العهد الموحّدي، فيبدو أنّ نشاط علماء المالكيّة قد عاد حثيثا، نتيجة لأسباب منها قيام الدّولة على العقيدة الموحّديّة. هذه العقيدة الّتي تختلف عن المذهب المالكي في بعض النّقاط منها: اعتقاد الموحّدين في عصمة الإمام المهدي، محمّد بن تومرت (ت.522 أو524/1128 أو 1130)، ورفضهم للفروع الّتي قام عليها المذهب المالكي، وقولهم بوجوب العودة إلى القرآن والسّنّة. على أنّ الموحّدين لم يفرضوا مذهبهم على أهل المدينة، الأمر الّذي أدّى إلى مناظرات بين علماء المذهبين، كما شجّع على قدوم عدد من العلماء إلى تونس لاسيّما أنّها أصبحت عاصمة جهويّة لإفريقيّة. ومن ذلك نذكر محمّد بن عبد الله القحطاني (ت. 595/1198) الّذي قدم إلى مدينة تونس من قرطبة، واُستُقضي بها؛ وأبا الحجّاج يوسف بن محمّد بن إبراهيم الأنصاري البياسي (ت. 653/1255)، أحد أدباء الأندلس، الّذي قدِم إلى تونس وألّف كتابا لأبي زكرياء يحيى الحفصي؛ وأبا محمّد عبد السّلام البرجيني (ت. 662/1263) الّذي نزح من المهديّة إلى تونس، فتولّى القضاء والإفتاء هناك في عهد الوالي الموحّدي عبد الواحد بن أبي حفص. يتبع