مع بدايات مسار أوسلو بين الكيان الصهيوني والقيادة الفلسطينية أطلق شمعون بيريز مصطلحا تفاوضيا جديدا... مصطلح أراده عنوانا للعملية التفاوضية برمتها. وهو يختزل في الواقع رؤية الكيان الصهيوني لهذه المفاوضات وكذلك مختلف التكتيكات التي يعتمدها الصهاينة وصولا الى تحقيق الهدف الاستراتيجي الكبير المتمثل في أخذ الأرض كل الأرض الفلسطينية مقابل إعطاء الفلسطينيين أوهام سلام غير موجود على أرض الواقع وكانتونات بشرية تشقها الكتل الاستيطانية ولا تتوفر على مقومات الدولة كما يرنو ويطمح إلى ذلك الفلسطينيون. *** هذا المصطلح الصهيوني الخبيث أورده بيريز تحت عنوان «التدويخ السياسي» الذي ارتقى ليصبح بمثابة النظرية التفاوضية الجديدة والاستراتيجية القائمة على تدويخ الخصم لجعله يرى الديك حمارا ليفقد بالتالي بوصلته ويتخلى عن ثوابته لتصبح المفاوضات بالنهاية عبارة عن جلسات يطرح فيها الطرف القوي إملاءاته على الطرف الضعيف... وعمليا فصّل بيريز هذا المصطلح كالآتي: يتم تعمد نقل مكان المفاوضات من مدينة إلى أخرى ومن دولة إلى أخرى ومع كل محطة يقوم الطرف الصهيوني الأقوى بإنزال سقف الطلبات الفلسطينية... ويتم التعويل في ذلك على إنهاك الطرف الفلسطيني نفسيا وإخضاعه إلى سيل من الضغوط العربية والأمريكية والأوروبية التي تصور له بأن موازين القوى في غير صالحه وبأن الأجدى هو القبول بالاقتراحات الصهيونية حتى وإن كانت من قبل الفتات قبل أن يلتفّ عليها الصهاينة. *** وبالفعل داخ الطرف الفلسطيني وقبل بإنزال السقف في مفاوضات أوسلو لينزل معه سقف المطالب الفلسطينية من مطلب وأمل دولة وطنية مستقلة عاصمتها القدس الشريف إلى حكم ذاتي يشمل السكان. ويستثني الأرض والسماء وباطن الأرض وهو الأمر الذي سارع الصهاينة بالالتفاف عليه ليصبح مصطلح الأرض مقابل السلام وفق المنظور الصهيوني مصطلحا يفضي إلى استحواذ الصهاينة على الأرض الفلسطينية مقابل منحهم إمكانية العيش بسلام أو بالأحرى باستسلام وخضوع للإملاءات والشروط الصهيونية وكذلك لمتطلبات المشروع الصهيوني الكبير الذي يعتمد المرحلية في التنفيذ والقاضي بقضم الأراضي الفلسطينية والعربية شيئا فشيئا تمهيدا لقيام ما سمي إسرائيل الكبرى التي تمتد من النيل إلى الفرات. *** ومنذ اتفاقات أوسلو والصهاينة يناورون ويداورون ليلتفوا على مضامين الاتفاق ويفرضوا الأمر الواقع الذي يمهد لإنجاز مشروعهم الكبير. وظلت الإدارات الأمريكية المتعاقبة تعاضد هذا الجهد الصهيوني بل وتضغط على الطرف الفلسطيني لجعله يتنازل عن ثوابته ويفرط في حقوقه بعد أن حشر في زاوية مفاوضات سلام عبثية لا تعدو كونها غطاء لتمرير الرؤية الصهيونية للحل القائم على الاستحواذ على الأرض الفلسطينية ومصادرة البندقية الفلسطينية المقاومة والتي أفلحت في وقت ما في فرض نوع من توازن الرعب مع الصهاينة رغم غطرستهم ورغم التهم الحربية... ومع مجيء ترامب إلى رئاسة الولاياتالمتحدة بدا واضحا أن تقلبات دراماتيكية سوف تحدث على مستوى قضية الشعب الفلسطيني وتطلعاته الوطنية المشروعة... وبالفعل لم يتأخر سَيْل هذه التقلبات. اعتراف بسيادة الصهاينة على القدس الشرقية ونقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدسالمحتلة.. علاوة على إغلاق بعثة منظمة التحرير في واشنطن وتجفيف منابع التمويل لكل المنظمات الأممية القائمة على رعاية أبناء الشعب الفلسطيني وفي طليعتها «الانروا» كل ذلك بغية كسر إرادة الصمود لدى الشعب الفلسطيني وتهيئة المناخات لفرض ما سماه ترامب «صفقة» القرن والتي يجري بموجبها تحويل القضية نهائيا من قضية احتلال وسيطرة على المقدسات ومن قضية تحرر وطني وتوق إلى دولة مستقلة وعاصمتها القدس الشرقية كما تنص على ذلك قرارات الشرعية الدولية إلى شيء قابل للبيع والشراء ولا يتعدى توفير بعض الدولارات لتحسين ظروف عيش الفلسطينيين في انتظار نضوج ظروف ترحيلهم إلى الوطن البديل شرقي نهر الأردن كما يخطط لذلك الصهاينة. *** وبالفعل ينطلق اليوم في المنامة الفصل الأخير من نظرية التدويخ السياسي... هذه النظرية التي سيتم بموجبها تحويل طبيعة القضية ووجهة الصراع من قضية تحرّر من براثن عدو اسمه العدو الصهيوني إلى قضية حاجة اقتصادية تلبى بالبترودولار... أما الأرض فيفرّط فيها للصهاينة وأما الدولة الفلسطينية فتدفن إلى الأبد.. وأما الحقوق الوطنية الفلسطينية فتباع وتشترى. *** فات الصهاينة والعرب المهرولين إلى مؤتمر المنامة شيء واحد فقط لكنه أساسي، الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني غير قابلة للبيع ولا للمبادلة وكل طغاة وجبابرة العالم لن يجدوا فلسطينيا واحدا يقبل بالتخلي عن ثوابت الشعب وعن أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين.. قالها الزعيم الرمز الراحل ياسر عرفات في مفاوضات «كامب دافيد» وسيقولها كل فلسطيني وكل فلسطينية إلى أن يرتفع العلم الفلسطيني فوق مآذن وكنائس وأسوار القدس... ولو كره الصهاينة وكل سماسرة القرن.