هاجر صهيب الرومي الى المدينةالمنورة، فتبعه جماعة من قريش مشركون، وحاولوا حجزه عن الهجرة فقال لهم : وايم اللّه لا تصلون الي حتى أرميكم بكل سهم عندي ثم أضربكم بسيفي، وإن شئتم دللتكم على مالي وتخلوا سبيلي. فقالوا : نعم، فرجعوا عنه، وتابع صهيب هجرته الى المدينة، فلما رآه رسول اللّه ص قال له : «ربح البيع يا أبا يحيى». ان ترك الانسان لوطنهوأهله وماله من أصعب الأمور وأشقها، ولو كان تركه لوطنه من أجل تجارة يسافر من أجلها، أو نزهة يستمتع بها، ويزداد الأمر صعوبة حين يهاجر المرء الى بلد مجهول عنه، لا أرض له يها ولا بيت ولا مال ولا أهل، كل ذلك مع الخوف والشعور بعداوة البلدان حوله لبلده ودعوته. هاجر صهيب رضي اللّه عنه من مكة الى المدينة في هذه الأجواء الرهيبة، وكم وسوس له الشيطان بعد الطريق ووعورته والجوع والعطش، والخوف والتعب، لكن إيمانه باللّه وحبّه له انتصر على كل ذلك، وصغرت الدنيا كلها في عينيهم، وهانت عليه نفسه من أجل اللّه، فعزم على الجد، ونبذ الكسل والدعة والخوف، ليلحق برسول اللّه ص وصحابته في المدينةالمنورة. انتصر صهيب على أول عقبة في طريقه، حينما لحقه المشركون ليمنعوه من الهجرة، ويضعوا العراقيل في طريقه، فلم يتخلص منهم بمكره وتلاعبه، ولا بتنكره وأساليب التخفي، بل ظهر إليهم بشخصه، وتصدّى لهم بقوة المؤمن واستطاع أن يصرفهم بمزيد من التنازل عن ماله، فما أحسن المال إن استطاع صاحبه أن يجعله وقاية له دون عرضه ودينه، فليذهب المال إن بقي الدّين والعرض مصونا. ثم تابع صهيب هجرته وقد أحسّ بانتصاره على ذاته قبل انتصاره على عدوه، واستطاع أن يمضي شامخا متعاليا عن كل متع الدنيا من أجل إيمانه، وكم سيحقق من انتصارات على أعدائه في ما بعد، وذلك لما رخص في عينيه كل ما حصله من دنياه، وعلى الجهة المقابلة فإن الهزائم ستلحق بأولئك الذين عظمت الدنيا في أعينهم، وليس لهم قضية ولا إيمان، بل أقصى ما يسعون إليه هو المزيد من الدنيا ومن أي طريق كان ذلك. هكذا انطلق أصحاب النبي ص في بلدان الجزيرة العربية الى لاجئين في المدينةالجديدة، وقد حاول أهل المدينة أن يخففوا من شعورهم بالغربة واستقبالهم كأحسن ما يمكن أن يكون كرم الضيافة في العالم.