الجريصة مدينة منجمية عرفت ازدهارا في عهد «المينة» وكانت تشغّل المئات من العمال من مختلف المناطق لكن بعد انخفاض الإنتاج بصفة كبيرة تخلت عنها السلط وبقي سكانها يتألمون في صمت جرّاء المعاناة التي تزداد يوما بعد يوم. هذه المدينة المنجمية العريقة لا شيء يوحي أنها كانت منجما للحديد وتوفر حوالي 60٪ من الإنتاج الوطني وكأنها ليست لها أي صلة بهذه البلاد فلا مشاريع ولا برامج مستقبلية فهي منسية تماما وسكانها يعيشون الفقر والخصاصة والحرمان واللامبالاة حتى أن بعض سكانها ممن عملوا في «المينة» سابقا يتأسفون على تلك الأيام رغم أنهم كانوا تحت رحمة المستعمر الفرنسي فقد كانوا يتمتعون بكامل حقوقهم والمنطقة كانت تشع على باقي المدن المجاورة فكل شيء كان متوفرا بل ان العديد من المواطنين من مدن أخرى كانوا يأتون إلى الجريصة لقضاء حاجياتهم فالمدينة كانت كالحصن المنيع فهي توفر مدخولا محترما للجميع ولا تجد العاطل عن العمل ولا المحتاج.
«المينة» التي تأسست سنة 1907 عرفت إنتاجا كبيرا من مادة الحديد سنة 1964 أين كان يعمل بها حوالي 2275 عاملا ووصل رأس مالها إلى 2.5 مليون دينار وانطلاقا من سنة 1970 بدأ عدد العمال في الانخفاض إلى أن وصل إلى حدود 1300 عامل. ومن سنة 1978 إلى سنة 1993 بدأت عملية «التطهير» وذلك بتقديم ألفي دينار لكل عامل يريد الخروج من «المينة» وتمتيعه بجراية شهرية إلى حدود 9 أشهر إلى أن أصبح اليوم عددهم لا يتجاوز المائة. ومنذ انخفاض الإنتاج تراجعت الحركة الاقتصادية ولم يلق سكان المدينة سوى الوعود الوهمية والأكاذيب من المسؤولين الذين كانوا يأتون إلى المدينة لترويج أفكارهم وبرامجهم التي تخدم مصالحهم الخاصة.
الدولة لم تفكر في ما بعد المنجم ولم تستعد كما ينبغي لهذه السنوات واكتفت بمشروع يتيم وهو معمل الاسمنت والذي أصبح غير قادر على استيعاب المزيد من اليد العاملة وحتى معمل الآلات اليدوية تمت خوصصته وصاحبه أغلق أبوابه في ظروف غامضة.
أما في الميدان ألفلاحي فإن المنطقة تعتمد على زراعة الحبوب ولم تحقق الاكتفاء الذاتي في أي مجال فكل الخضراوات والغلال يقع جلبها من مناطق أخرى وخاصة من السوق المركزية بالعاصمة رغم وجود العديد من البحيرات الجبلية والتي كان بالإمكان استغلالها لإنتاج بعض ضروريات وحاجيات المنطقة. هذا الوضع أدى إلى انعدام مواطن الشغل مما جعل العديد من السكان ينزحون إلى مناطق أخرى لتوفير لقمة العيش لعائلاتهم. ولئن وجد الكهول والشيوخ الحل في العمل على حساب الحضائر فإن الشباب وفي غياب المعامل والمصانع أصبح يرتاد المقاهي طول النهار.
وأمام انسداد الأبواب لم يعد بالإمكان البقاء فغادر أغلبهم المنطقة إلى المدن الكبرى ومنهم من هاجر بطريقة غير قانونية وذهب إلى المصير المجهول. يقول الشاب عبدالله الزغلامي وهو أحد متساكني المدينة : «المنطقة منسية تماما من جميع النواحي وفي كل الميادين والشباب مل الوعود ونحن نريد التفاتة كبيرة وفعالة من الحكومة فالمطلب الأساسي هو التشغيل وهذا لن يتم إلا بإحداث معمل يستقطب العديد من اليد العاملة كذلك لا بد من إيجاد الحلول لمشكلة التلوث فمعمل الاسمنت قضى على الأخضر واليابس وسبب بعض الأمراض المزمنة والخطيرة»... ويضيف زميله رضا المسعودي «قطاع الصحة في حالة يرثى لها من جميع النواحي والمريض يذهب إلى مستشفى تاجروين أو إلى المستشفى الجهوي بالكاف وهذا ما يسبب الكثير من الأتعاب والمصاريف الزائدة ولا بد من إحداث مستشفى مجهز وحديث». أما مياه الشرب فقد كانت السبب في إصابة أغلب السكان بأمراض الكلى ولا ندري متى سينفذ المشروع الذي سمعنا به والمتمثل في تزويد المدينة بالمياه الخالية من الكلس؟ كما نطلب من المسؤولين عن قطاع السكة الحديدية أن يجعلوا محطة أرتال الجريصة محطة رئيسية لأن المسافرين يلاقون الكثير من الأتعاب عند ركوبهم القطار فهم ينزلون في محطة الدهماني ولا يتمكنون من العودة إلى منازلهم لعدم توفر وسائل النقل التي تربط بين المدينتين...
هذه الجريصة اليوم شباب مهمش وبطالة فرضت على الجميع وفقر مدقع وصل إلى حد لم يعد يحتمل وجميع السكان يتألمون في صمت وكلهم ينظرون إلى الثورة الأخيرة بعيون حالمة بعد سياسة لم تكن واضحة وملفات تم غلقها دون تبرير ولا توضيح لأسباب التخلي عنها دون مراعاة للوضع الاقتصادي والاجتماعي للجهة وينتظرون إعادة الحياة للمدينة من جديد بإعادة تشغيل معمل الآلات اليدوية وبعث عدة مشاريع تنموية لرد الجميل للمنطقة التي أعطت الكثير دون أن تستفيد.