من أين لي أن أستشفّ الصّبح في هذي الظّلم؟ منوّر صمادح اشتهت نفسي هذه الأيّام أن أسبّ نفسي .أن ألعن أجدادي الذين لم يختاروا غير هذا البلد سكنا...ما بالهم بعد أن حاربوا وتاجروا و حجّوا وساحوا في بلاد الله لم يختاروا التّناسل إلاّ هنا؟ لماذا قذفوني في مكان كهذا ضاق بي وضقت به...فلا أنا قادر على الإقامة به ولا مستطيع الرّحيل منه؟ هذا البلد الذي يفتخر مثقّفونا بالثلاثين قرنا من عمر حضارته ماذا ورث من تلك الثلاثين ؟ أسألكم.
القرطاجيّون رحلوا بلغتهم وديموقراطيتهم وسفنهم وما تركوا لنا غير اسم أميرة وهميّة نتبرّك بذكرها. الرّومان رحلوا أيضا آخذين معهم نظمهم الإدارية والمالية والعسكرية وكتب أبوليوس وماغون وأوغستينوس ، ولم يتركوا لنا غير أعمدة مكسورة وبعض أطلال نريها للسّوّاح ونرقص فوقها صيفا.
البيزنطيّون تركوا سبيطلة وكنائس مهدّمة ورحلوا بمسيحيّتهم المنهزمة أمام الزّحف الإسلامي. فلول البربر ابتلعهم العرب القادمون من الجزيرة مبشّرين بدينهم الجديد . والعرب بدورهم ، غادرهم نقاؤهم الأوّل ، وخالطتهم شعوب بحريّة، وقبائل سقطت عليهم من جبل أو زحفت من صحراء ؟ ماذا ورثنا من كلّ هؤلاء ؟ لاشيء متفرّدا، لا شيء متميّزا...وإنّما ظللنا نتنافخ وندّعي الشّرف الكاذب كافتخار الفلاح الصّعيديّ بأجداده الفراعنة. أنا غاضب وحانق ومتألّم من خوائنا الثّقافيّ ، وتسوّلنا على الأبواب من شرق أو غرب . إنما نحن شتات لا يلتئم له شمل ، ولا اجتماع على كلمة...نحن هباء جمعه بورقيبة في كفّه ليصنع منه عجينا يكيّفه على هواه. وكما تبعناه تبعنا من قبله ، ومن جاء بعده ، لأنّنا دوما على أهبة لاتّباع كلّ ناعق . تلك كانت سيرتنا في عهد البايات ، انقسموا إلى باشيّة وحسينيّة فانقسمنا مثلهم . أيّام فرنسا انقسمنا إلى فئة تجنّست وفئة بقيت «أنديجان» . وفي حمّى مقاومة الاستعمار انقسمنا إلى حزب الثّعالبي القديم وحزب بورقيبة الجديد . عند الاستقلال اتّبع جماعة صالح بن يوسف وقالوا : هي خطوة إلى الوراء ، واتّبع آخرون بورقيبة ونظريّته : خذ وطالب.
ثمّ آلت القيادة لبورقيبة فساقنا كالقطيع لكن بذكاء ، ولامستنا عبقريّته قليلا، ثمّ سلّمنا إلى خليفته فقادنا كالقطيع أيضا ولكن بسخف ونذالة مع سلب ونهب ، ثمّ فرّ و ترك البلد جاثيا على ركبتيه.
لنقل أنّ هذا كلّه صار وراءنا ، وأنّنا صنعنا ثورة لنصنع مصيرنا بأيدينا ، وأنّنا شطبنا بجرّة قلم عهد الظّلم والجور، وذهبنا إلى انتخابات تضع الحكم وصنع القوانين بيد الشّعب ، فتنفّس النّاس الصّعداء وبدأوا يرتّبون البيت ويتفقّدون ما انكسر فيه وما تعطّل من أدواته .
اليوم وبعد تخلّصنا من البايات ،من بورقيبة ، من بن علي ،من حزب التّجمّع بدأنا البحث عن حامل عصا جديد ليسوقنا . ومع أنّ البلد ذو شكل مستطيل إلاّ أنّنا حصرناه وسط مثلّث ملتهب يتّقد نارا ويرمي شرارا. ضلع منه حزب دينيّ ذوأجنحة وتوابع ذات زوابع ، الضّلع الثّاني أحزاب اليسار بأطيافها وزعاماتها تجرّ طوباويّات القرن الماضي ، والضّلع الأخير حزب جديد، جامع للجميع، لن يترك شيئا إلاّ احتواه ، وربّما سيعيد الذّئاب القديمة إلى السّاحة.
قلبي يحدّثني أن لا خير في الأضلاع الثلاثة ، وأن لا خيار لشعبنا في الإفلات منها إلاّ ببذر عقيدة قتاليّة صلبة ، واستمساك بحبّ البقاء لثورة ثانية وربّما ثالثة كلّما رأى السّفينة بدأت تغرق.
غفر اللّه لي كم كرهت عالمنا الكبير هشام جعيّط يوم صرّح في حديث صحفيّ مع حسن بن عثمان عنوانه بالأحرف الغليظة: «الشّعب التّونسي جاهل جهالة لم أر مثلها في حياتي». ولمّا جاء يومي هذا المليء سخطا وقلقا، وجب عليّ الاعتذار للرّجل عن سوء ظنّي به واعتقادي بشعوبيته أو طبقيّته أو تنصّله من ذاته وأمّته لغاية في النّفس يعلمها .وأتذكّر أنّ أبا القاسم الشّابّي فعلها قبله إذ قال: أيّها الشّعب ليتني كنت حطّابا فأهوي على الجذوع بفأسي أنت روح غبيّة ، تكره النّور وتقضي الدّهور في ليل ملس أيّها الشّعب أنت طفل صغير، لاعب بالتّراب واللّيل مغس