الدستور هو القانون الأساسي في الدولة وهو الذي يعين أهدافها ويضع الإطار السياسي والاجتماعي والاقتصادي فيها و تحدد الأهداف فيه غالبا طبقا لمبدا التدرج حسب أهميتها و ينتظر الشعب التونسي من الدستور الجديد ما يضمن تحقيق مطالبه التي ثار من اجلها في 14جانفي2011 قال تعالى :" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ ".الآية : 2-3 من سورة الصف. في إطار المساهمة في إعداد الدستور الجديد للبلاد التونسية نستعين بهذه الآية الكريمة لنعد دستورا عمليا يكون متضمنا لبرامج قابلة للتحقيق لا أن يأتي نظريا مطولا يختلط فيه الغث بالسمين و ليعلم السادة النواب في المجلس الوطني التأسيسي و أعضاء المجلس التأسيسي المدني أن الأهم في هذا المشروع ليس اكتماله شكلا ومضمونا فحسب بل خاصة ملاءمته للوضع المتولد عن الثورة اذ يتحتم على الدستور الجديد أن يكون مرآة الثورة التونسية مستجيبا لمطالب الذين استشهدوا و قاوموا الاستبداد داخل تونس و خارجها غير قابل لاستعماله كمطية للدين السياسي أو لليسار المتطرف و أن يكون وليد هذه الثورة و يحمل روحها و جيناتها لا نصا محايدا جليديا غريبا فقد لاحظ هؤلاء السادة أنهم بعد قضاء مدة طويلة في النقاش تيقنوا أن جزءا كبيرا من دستور 1959 لا غبار عليه و لا يزال صالحا و أن التقصير كان في التعامل معه وعدم احترامه من قبل الأنظمة السابقة و لذلك وجب الحرص أولا على المرجعية الثورية الشعبية للدستور القادم ليكون مواكبا لزمانه حافزا لانطلاقة الشباب لا كابحا لعزيمته و طموحه ونبراسا لتونس الحداثة قولا وفعلا التوطئة و خصوصيات الثورة التونسية تدرج هذه المساهمة بعد حضور عمل لجنة المجلس التأسيسي المدني التي اجتمعت يوم الأحد 6ماي و الحديث مع أفرادها و كذلك على اثر الاتصال ببعض نواب المجلس الوطني التأسيسي في موضوع إعداد الدستور ولا بد من الإشارة هنا إلى الاندفاع و الصدق اللذين كانا يميزان كل من ناقشت معهم هذا الموضوع من سيدات و سادة و أول سؤال يتبادر إلى الذهن هو لماذا لا يمكن القبول بفكرة دستور نموذجي صالح لأطول مدة ممكنة مستوحى من الدساتير الغربية ?و الجواب انه لا مجال للقياس مع دساتير دول مثل الولاياتالمتحدةالأمريكية لان وضع تونس ووضع كل دولة عموما يختلف مع غيرها و إذا سلمنا بحكم الانتساب للمجموعة الدولية أن دساتير العالم تتفق فيما بينها على نفس القيم الكونية تقريبا فان الأهم بدرجة أولى في دستور كل دولة هو خصوصياتها التي دعت لإعداد او لتنقيح الدستور وهي توجد عادة في التوطئة و بالنسبة لتونس هناك خصوصيات أفرزتها هذه الثورة يتحتم أخذها بعين الاعتبار هذه الخصوصيات هي تونسية بحتة و يبدو أن التاريخ لم يسجل لها مثيلا في الماضي و تتمثل أولا في أن ثورة 14 جانفي كانت عفوية و شعبية ناجحة وغير مؤطرة و نادت بالحرية والعدالة بين الجهات وتوفير العيش الكريم للشعب و ثانيا هذه الثورة لم يكن يكتب لها النجاح لولا وقوف الجيش التونسي و دعمه المباشر لها بل و أصبح الجيش والى هذه الساعة العين الساهرة على مكاسب الثورة رغم عراقيل الردة و اصدق فاعل فيها و في مسار التحول الديمقراطي و هي سابقة فريدة من نوعها في تاريخ الشعوب أن يتصرف جيش بتلك الفعالية و يرعى القيم الإنسانية مثل الجيش التونسي وتبعا لذلك فمن باب الإنصاف و المسؤولية أن لا يخرج دستور تونس الجديد عن هذا الإطار الواقعي الموضوعي ويقع إبراز ذلك في التوطئة يمكن القول أن التوطئة هي أهم أجزاء الدستور وفيها نتعرف بمجرد قراءة الأسطر الأولى على جنسيته و ظروف و ملابسات إعداده أو تنقيحه و هدفه الرئيسي لان كل دستور يحتوي عادة على هدف رئيسي و أهداف ثانوية متدرجة ولنا مثل في القران دستور المسلمين بقدرته على البيان و اختصار الكلام و بأسلوبه القصصي حيث تشفع كل تعاليم الإسلام بأسباب نزولها و بذكر مقاصدها و هذا من شانه أن يحث المهتمين بصياغة الدستور على النسج على هذا المنوال وتخصص فيه المكانة الأولى للثورة و خاصة في توطئته لأنها هي مفتاح الدستور و كلما كان هذا المفتاح مشخصنا personnalisé وليد حدث بارز و ذو مرجعية وطنية كان أكثر دفعا و خاصة لشعوب الدول النامية ويقول المثل : كل إناء بما فيه يرشح , والمقصود من ذلك : أن المقدمة تدل على الموضوع , وأن الإسم يدل على المسمى , والمظهر ينبؤك بالجوهر وكما قيل في مثل آخر : الليلة السعيدة تبدو من مغربها و الغاية من اللجوء إلى هذه الأمثال هي التنبيه إلى خطئ الإفراط في سرد المبادئ الدستورية في المقدمة دون اعتبار أولية فرضتها الأحداث وهي الثورة وهذا الخطأ قد يكون وقع فيه المهتمون بإعداد الدستور التونسي التوطئة في الدساتير الأجنبية يمثل الدستور قمة هرم التشريع في كل دولة و يكمن الاختلاف بين الدساتير في مشاريعها الوطنية الكبرى و يجدر التذكير هنا أن ثورة 14 جانفي هي وحدها التي غيرت النظام السياسي في البلاد و أن دولا عظمى و نامية وجدت نفسها في نفس المنعطف الذي تعيشه تونس حاليا و اجمع نوابها في البرلمان على ايلاء الحدث الرئيسي مكانة عالية والتعريف بمشروعية أهدافه و صياغتها في التوطئة في معاني دالة بألفاظ تعبر باقتضاب على المشروع الوطني ككل في الدستور وفيما يلي أمثلة لذلك تؤكد توطئة دستور ألمانيا لسنة1949 (المنقح سنة 1990)على ان الشعب الألماني واعى بمسؤوليتة أمام خالقه و في هذا عبرة لمن عارضوا البدء بالبسملة في توطئة الدستور التونسي الجديد و تعلن نفس التوطئة انه بتوحد الألمانيتين الغربية و الشرقية يكون الشعب الألماني قد أنهى وحدة ألمانيا و حقق حريتها و هو ما يؤكد أن كل دستور هو نتاج حدث وطني بارز يتبوأ الصدارة في التوطئة و أحيانا تختصر هذه الأخيرة لاعتبار أن ما لم يقع تدوينه أصبح من تحصيل حاصل و كذلك أيضا لغاية التركيز على كل ما يمثل تحدى أو مشروعا وطنيا و فعلا تمكن الألمان من رفع التحدي و صبروا ولم ينفذوا اعتصامات لعرقلة عمل الدولة بل ضحوا بقوت أبنائهم و جندت ألمانيا كل طاقاتها مستلهمة استراتيجيتها من دستورها الجديد الذي يعكس صورة ألمانياالمتحدة التي ضحت بإمكانيات ألمانياالغربية حتى التحقت مقاطعات ألمانياالشرقية الفقيرة بالركب وتقلد عدد كبير من أصيلي تلك المناطق المتواضعة أعلى المناصب منهم المستشارة انقيلا ماركل Angela Merkel أصيلة قرية Perleberg في ألمانيا الديمقراطية سابقا و يمثل صدور الدستور الاسباني سنة 1978 قمة انتقال اسبانيا للديمقراطية و تمت المصادقة عليه بعد استفتاء شعبي يوم 6 ديسمبر سنة 1978 و صدر بتاريخ 27 ديسمبر من نفس السنة. و بالنسبة لفرنسا يعتبر دستور 4 أكتوبر 1958 الذي لا يزال سائر المفعول أعلى تشريع قانوني في البلاد و من الدساتير التي بقيت مدة طويلة دون أن تتغير و كانت من أهم الأسباب التي دعت إلى إعداد هذا الدستور حرب التحرير الجزائرية و حالة عدم استقرار الحكومة في ذلك الوقت و يمثل دستور اليابان لسنة 1946 منعرجا تاريخيا لدولة لم تستسلم عسكريا إلا بعد قصفها مرتين بالقنبلة النووية الأمريكية و يعلن في توطئته على خيار التعاون السلمي مع كل الأمم ونبذ الحرب و أهوالها و جاء في الفصل التاسع أن الشعب الياباني قرر عدول دولته نهائيا عن حقها في إعلان الحرب أو التهديد باستعمال القوة و يتميز دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية لسنة 1979 (المنقح سنة 1989) بتوطئة مطولة جاء فيها بالخصوص " … أن دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية هو تعبير عن المؤسسات الثقافية و الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية في المجتمع الإيراني و هي ترتكز على مبادئ و تعاليم الإسلام التي تعكس تطلعات المجموعة الإسلامية… وفي فجر هذا النصر الأكبر للثورة الإسلامية … تدعو امتنا بكل قوة إلى انجاز أهداف الثورة…" و يتضمن الدستور الإيراني 9 فصول خصصت للجيش و حرس الثورة و يتمثل دور جيش الجمهورية الإسلامية في الحفاظ على استقلال البلاد و مناعتها الترابية و النظام الجمهوري الإسلامي للبلاد وهو ملزم بان يكون جيشا إسلاميا ايدولوجيا شعبيا تضم صفوفه أشخاصا أكفاء يؤمنون بأهداف الثورة الإسلامية و يسعون لتحقيقها كما ينص الدستور على منع تركيز قواعد عسكرية أجنبية ولو لغايات سلمية و يمنع أيضا استعمال العسكريين و التجهيزات العسكرية لأغراض نفعية خاصة… و يلاحظ مما تقدم أن دساتير الدول و إن اختلفت خصوصياتها و في شكلها هي تعبير عن مطالب شعبها و برامجها الإستراتيجية بالاساس الدستور عمل هين و المجلس الوطني التأسيسي جهاز عتيد رغم استعصاء المشاكل الاجتماعية يمكن القول أن البرامج السياسية الكبرى منذ الثورة تقدمت و تحققت بعض أهدافها و في خصوص الدستور الجديد فهو إن شئنا عمل هين طالما يوجد دستور 1959 الذي يعد مرجعا له و من المتوقع أن يتم إعداد هذا المشروع بأكثر سرعة إذا اجري العمل على مراحل و داخل مجموعات أفرادها يحترمون قواعد عمل متفق عليها بحيث يصبح مع تقدم الانجاز من الصعب التراجع و الطعن في ما تم عليه الإجماع و لا يتناول الكلمة في المرحلة الأخيرة إلا رؤساء المجموعات ويعود سبب التأخير في إعداد الدستور إلى تدخل الأحزاب في عمل النواب و محاولة تاطيرهم بصفة ملفتة للنظر لكن هذا التاطير كشف عن مزاياه لأنه يلزم المعنيين به بنوع من الانضباط و خاصة التابعين للترويكا خلافا للنواب الأحزاب الأخرى والمستقلين و صادف كذلك أن تأجل عمل النواب عند وقوع أزمات و حوادث على مستوى وطني او بسبب مناقشة قانون المالية و يخص عمل إعداد الدستور بالدرجة الأولى نواب المجلس الوطني التأسيسي و يمكن لممثلي المجتمع المدني و المختصين منهم في القانون و الاقتصاد و علم الاجتماع و شؤون الدفاع الوطني و الأمن إبداء رأيهم و يمكن الاستعانة بكل من يرى في نفسه المقدرة بشرط موافقة المجلس التأسيسي و قد يكون رأي رجل القانون أكثر فائدة من المختصين الآخرين باعتبار الدستور أهم مرجع تشريعي للدولة لكن دوره لا يجب أن يتجاوز دور الفني في هذا المجال و ليس من باب الاطراء القول أن المجلس الوطني التأسيسي يحضى بتقدير كل فئات الشعب و ربما يعود ذلك إلى عدم مشاركته المباشرة في سياسة الحكومة و يعتقد المواطن انه فعلا جهاز عتيد و كأنه غير مؤقت و يرى فيه التونسيون أحسن انجاز لفترة ما بعد الثورة وهو الأكثر قابلية للتطور نظرا لرعايته لمصلحة البلاد العليا من جهة و لحرصه على الانضباط في العمل و تسييره لأعضاء المجلس بطريقة ديمقراطية بعيدا عن الاعتبارات الحزبية من ناحية أخرى و نظرا كذلك للديناميكية التي تتميز بها المعارضة و يحتوي دستور سنة 1959 على نقائص يمكن تداركها وتبقى الدساتير التونسية وبعض الدساتير الأخرى و مساهمات ممثلي المجتمع المدني إضافة لا يستهان بها و حتى يرتقي نص الدستور القادم إلى مستوى تطلعات الشعب الذي ثار على الطاغية و اجبره على الفرار يوم 14جانفي عليه أن يتضمن بصريح العبارة الإشادة بالثورة و بمن كان طرفا فاعلا مباشرا فيها مثل الشعب والجيش والمجتمع المدني ويحدد أولوياتها المتمثلة في الحرية و العدالة الاجتماعية و التوزيع العادل للثروة بين الجهات و يتحقق ذلك شريطة اعتماد نظام برلماني فدرالي تتمتع فيه الجهات بالاستقلالية الاقتصادية و يكون لها برلمانها المصغر الخاص بها على غرار اسبانيا أو سويسرا وإذ لم تعبر القوات المسلحة عن طلباتها في أي مجال فقد كانت دوما هكذا ولا تزال تعمل في صمت و يطالب الشعب منذ بداية الثورة بشد أزر الجيش و دسترة دوره حتى يبقى قويا منيعا جاهزا لحماية الشعب و حماية حريته و يقنن تدخله مستقبلا ((* عقيد متقاعد