المتتبع للإعلام الإلكتروني التونسي بعد الانتفاضة يلاحظ ظهور كتابات مسمومة، مضطربة، باهتة، بليدة الأحاسيس، لا تحمل هماً إصلاحياً، ولا رفضاً لواقع مرير، ولا ثورة مخبأة في النفوس، بل تحمل لغة اختفت فيها المحبة الوطنية، وحلّت محلها لغة التباغض والتباعد حيث ينتصر فيها الانغلاق على الانفتاح، وإن لمحت من وقت لآخر إلى أنها تحمل هماً وطنياً، وقلقاً على المصير. والمؤسف أن معظم كتّاب هذه المقالات ينتمي إلى الأحزاب التونسية التي ما تزال محافظة على عصبيتها القديمة، أكانت أحزاباً من بقايا السلطة، أو تلك التي كانت في المعارضة، أو تلك التي أنشأتها شخصيات سياسية على قياسها، أو تلك التي تتستر بالدين، أو العلمانية، أو القومية والشيوعية، والتي يتبنون فيها برامج وتصاريح سياسية تساعد في الانقسام وتفريق الكلمة بين التونسيين، وتدفع بهم إلى التقهقر والانحطاط. لست في حاجة لدحض تلك الكتابات الشنيعة وبيان فساد اعتقاداتها، فإن بطلانها ظاهر كالشمس، وقد آن الاوآن للكف عن هكذا مناظرات، وأن نطوي الصفحات الماضية المؤلمة في علاقاتنا الحزبية بما حوت من سلبيات وجراحات لمواجهة التحدّيات الوطنية التي ينتظرها وطننا. في هذه الظروف العصيبة التي تمر على شعبنا ومؤسساتنا الوطنية علينا أن نبذل كل الجهود للإرتقاء بمستوى التخاطب، خاصة في أجهزة الإعلام، وبما يساعد على دفع الحوار وإثرائه بين مفكري الأحزاب التونسية، وتركيزه على القضايا والمصالح الأساسية للوطن، كما علينا فتح جميع منابرنا الإعلامية المتوافرة لجميع المفكرين من أجل الإسهام في المزيد من التفاعل الفكري، وأن نسعى إلى تنظيم سلسلة من الندوات والحوارات والدراسات على المستوى الوطني بين جميع الأحزاب والأطراف حول القضايا الفكرية، وفي مقدمتها صياغة المشروع النهضوي الوطني بجميع أبعاده الاقتصادية، السياسية، الاجتماعية، الثقافية والإعلامية. وقد يسفر هذا الصراع الفكري بين الأحزاب التونسية عن إشارات إلى معالم منهاج يمكن أن يزيل من ساحة اللقاء بين الإسلاميين والعلمانيين والاشتراكيين وغيرهم من أصحاب العقائد ألغاماً فكرية قد زرعت في حياتنا السياسية واستنفدت طاقاتنا في صراعات داخلية، وذلك إذا ما تمّ تحرير مضامين الكتابات من أسر بعض المصطلحات السليبة، وإن لم تنهٍ الاختلاف فإنّه يزيل حدته، ويحول بينه وبين أن يصبح عقبة في سبيل الالتقاء، بل كفيل بفتح الأبواب لتنمية مساحات الوفاق الفكري، ومن ثم تعظيم طاقات العمل المشترك بين جميع الأحزاب في مواجهة المستقبل. نحن نعلم أن التطابق الفكري التام مستحيل التحقيق، حتى داخل الحزب الواحد إسلامياً كان أم علمانياً، لأن السُنة والقاعدة هي التنوع والاختلاف، إلا أن توافق أهل القلم على الفهم المشترك للعمل الوطني، على أساس أن مصلحة تونس والتونسيين فوق كل المصالح، ستفتح أبواباً واسعة لتنمية مساحة المشترك الوطني بيننا، وتقليص عوامل الاختلاف والخلاف، الأمر الذي سيزيد من طاقاتنا الوطنية . ثم ما من لغة من لغات العالم إلا وورد فيها هذا القول المشهور " القوة في الاتحاد"، أو ما بمعناه من الأقوال المأثورة الدالة على أن النجاح في كل الأعمال الوطنية قائم بالتآلف والتعاون. ويقول أهل الحل والعقد في العلوم السياسية والاجتماعية، إن التقدم الاجتماعي في أي بلد متحضر يقوم باتحاد القوى الحزبية، وتعاونها على السعي وراء الهدف الواحد، والاتحاد لا يقوم بدون الألفة، لأن الاشتراك في العمل الوطني يقتضي تجانس الآراء، واتفاق الأفكار، وتقارب القلوب، وتكاتف السواعد، وهذه الصفات تدفع الإنسان إلى مصافاة أخيه الإنسان في الوطن، وتحفظ نظام البقاء في التعاون والمناصرة. إن هذا التمدن الحضاري القائم أمامنا بعظمته وجماله في الأمم المتحضرة، ليس نتيجة فكر واحد، أو قوة حزب معين، بل هو نتيجة قوى فكرية وحزبية متعددة، وسواعد كثيرة بارعة ساهمت لارتقاء المواطن والوطن. فكل تونسي عاقل، لا يشترك في هذا العمل، فهو يسعى إلى نقض شريعة الله في خلقه، وكل حزب سياسي يقف عثرة في سبيل تعاون الأحزاب فيما بينها لمصلحة الوطن الواحدة، يساهم في تدمير وطنه. على الأحزاب التونسية أن تتعاون، وتتعاضد، و"يد الله مع الجماعة". تيسير العبيدي باريس