المظاهرات الشعبية التي جمعت رغم المخاطر الامنية الهائلة الاف المتظاهرين العراقيين من بغداد الى البصرة والكوفة والنجف احتجاجا على المعاهدة الاستراتيجية الطويلة المدى بين حكومة المالكي والادارة الامريكية جاءت لتعيد الى السطح احدى المسائل المصيرية الحساسة المتعلقة بمستقبل العراق وبسيادته وحق شعبه في تقرير المصير وذلك مع بدء العد التنازلي لانتهاء صلاحية القرار الاممي بشان الوجود الامريكي في العراق نهاية العام الحالي... وسواء كان خروج هؤلاء المتظاهرين تلبية لدعوة التيار الصدري الشيعي او غيره من الهيآت العلمية العراقية فان اللافتات التي رفعها المتظاهرون عكست موقفا موحدا حمل شعارا واضحا ورسالة لا تقبل الازدواجية او الخضوع للطائفية مفادها ان العراقيين بمختلف انتماءاتهم الشعبية يصرون على رفض استمرار الاحتلال لبلادهم تحت اي غطاء كان. ولاشك ان المفاوضات الجارية منذ مارس الماضي بين حكومة المالكي والادارة الامريكية لبحث صيغة يمكن بمقتضاها للجيش الامريكي التمتع بصلاحيات واسعة لمواصلة عملياته في العراق بعد انتهاء صلاحية القرار الاممي في غضون الاشهر الستة القادمة من شانها ان تثير اكثر من نقطة استفهام حول ابعاد واهداف هذه المفاوضات... واذا كان قرار الاممالمتحدة بشان الوجود العسكري الامريكي في العراق قد افتقد بدوره الشرعية وكان نتيجة حتمية للغزو الامريكي الذي حدث قبل ست سنوات فان الاتفاق الامني الذي تحرص ادارة الرئيس الامريكي على توقيعه خلال الشهر القادم لا يخلو من رغبة في استمرار الهيمنة على العراق وابقائه تحت سطوة الاحتلال .فهذا الاتفاق الذي يصر الجانب الامريكي على وصفه بالمعاهدة الاستراتيجية والذي يصاغ في كنف السرية والكتمان يحيط به الكثير من الغموض وانعدام الوضوح في ابعاده الراهنة والمستقبلية كما في اهدافه الامنية والاستراتيجية وهو ياتي ليعيد الى الاذهان الجدل المثير الذي فرضه من قبل اتفاق النفط والغاز الذي كانت الحكومة العراقية صادقت عليه قبل اشهر والذي يمنح شركات بريطانية وامريكية قطف اكثر من خمس وسبعين في المائة من ثروة العراق النفطية التي تجعله في المرتبة الثانية عالميا مقابل بعض الفتات للشعب العراقي الذي عانى ولا يزال يعاني الامرين جراء الاحتلال ودفع الثمن باهظا من دماء وارواح ابنائه... ان عناصر كثيرة من شانها ان تدعو للتشكيك في اي اتفاق امني طويل الامد بين واشنطن وحكومة المالكي في الوقت الراهن والتي تبقى حكومة احتلال سواء قبل بذلك او رفض اعضاؤها ثم ان مثل هذا الاتفاق لا يتم بين طرفين او شريكين متوازيين بل بين القوة الاكثر نفوذا في العالم وبلد لا يزال وفق كل القوانين والشرائع الدولية خاضعا للاحتلال وهو بذلك يحمل كل فصول قانون الوصاية المقنع الذي يصنف تحت مظلة ما عرف بالانتداب البريطاني والفرنسي بعد انهيار الامبراطورية العثمانية وبداية مرحلة التقسيم الاستعماري للعالم العربي الذي يعود اليوم ليشرع ابواب الانتداب الامريكي في ثوب جديد يخفي بين اهدابه كل مؤشرات ونوايا الهيمنة العسكرية الامريكية لا في العراق فحسب ولكن في كل المنطقة ومن هذا المنطلق فان ما تروج له الادارة الامريكية بشان الانتصار الحاصل في العراق الذي بصدد التحول الى مثال جديد لليابان والمانيا ليس اكثر من ذر الرماد على العيون واستبلاه للراي العام العراقي والدولي كما هو استنساخ للمسكنات الأمريكية بشأن مشروع الدولة الفلسطينية قبل نهاية العام. ان الترويج لوجود قواعد عسكرية امريكية في دول عربية دون ان تكون دول محتلة بدوره تبرير مفضوح لنظام الوصاية وهو نفسه الذي يسعى لغرس القناعة بان اي انسحاب امريكي من العراق سيخلق فراغا امنيا خطيرا وسيخلق كارثة وهي تبريرات وان كان في طياتها بعض المنطقية فانها لا يمكن باي حال من الاحوال ان تصادر حق الشعب العراقي المشروع في السيادة وتقرير المصير بعيدا عن كل انواع الهيمنة والوصاية الاجنبية ايا كان مصدرها وايا كانت اهدافها ولاشك ان الشعب العراقي بكل ما عايشه من تجارب واختبارات قادر ومؤهل لتولي زمام اموره وتوحيد صفوفه وتحديد مستقبله ومستقبل الاجيال القادمة فيه لا سيما بعد النتائج الهزيلة التي افرزها مؤتمر ستوكهولم الدوري لدعم العراق...