كشف حاتم المليكي الخبير في التنمية والحوكمة المحلية أن النسخة الجديدة المعدلة من مشروع مجلة الجماعات المحلية تضرب مبادئ أقرها دستور جانفي 2014 في الصميم على غرار السلطة المحلية والاستقلالية المالية للبلديات، والمساواة بين المواطنين، ومبدأ التشاركية. وقال في حوار ل«الصباح» أن المجالس البلدية التي سيتم انتخابها بعد 6 ماي 2018 وفي صورة مصادقة مجلس نواب على الصيغة المحالة على الجلسة العامة ولم تعدل في الفصول الجوهرية التي تدعم مبادئ الاستقلالية والتشاركية، فإنها ستكون مجالس مكبلة مفلسة لا يعني لها شيئا مبدأ التدبير الحر المنصوص عليه ضمن مشروع المجلة، بل عاجزة عن توفير موارد مالية ذاتية ضرورية وستكون ذات تبعية للسلطة المركزية.. بمعنى أن معظم المجالس البلدية المنتخبة لا ينتظر منها الكثير فلن تكون قادرة فعليا على تغيير الحياة اليومية للمواطنين نحو الأفضل ولا قادرة على الايفاء بوعودها الانتخابية.. يذكر أن لجنة تنظيم الإدارة وشؤون القوات الحاملة للسلاح في مجلس نواب الشعب صادقت على مشروع القانون الأساسي المتعلق بإصدار مجلة الجماعات المحلية برمته، بعد أن أرجأت الحسم في الفصول الخلافية إلى الجلسة العامة التي ستعقد غدا الخميس بمجلس نواب الشعب.. *هناك من يرى أن مشروع مجلة الجماعات المحلية يهدد وحدة الدولة ويكرس دكتاتورية المجالس الجهوية والمحلية ويشرّع لمفاهيم مسقطة مثل مفهوم «التدبير الحر»، كيف ترد على هذا الرأي؟ -لا بد من الإقرار أولا أن مشروع مجلة الجماعات المحلية يعتبر في حد ذاته مكسبا وطنيا، إذ تمت صياغته في نسخته الأصلية من قبل خبراء تونسيين وشارك في إعدادها وتصور أحكامها آلاف المختصين وغير المختصين ونشطاء وممثلين عن أحزاب وعن المجتمع المدني وكانت محور استشارات كبرى عديدة في الجهات وشاركت فيها وزارات ومؤسسات وهيئات وكتاب عامين للبلديات وعدد كبير من المواطنين.. الخاصية الايجابية للمجلة أنها جاءت في شكل نص موحد يجمع النصوص القانونية للجماعات المحلية وتكرس المبادئ العامة للباب السابع من الدستور على اعتبار أن كل النصوص الحالية هي مبنية على المنظومة القانونية القديمة. كما أن مشروع المجلة حافظ على التوازن بين حرية التدبير التي أسندها للمجالس المحلية وهي تعني أساسا وضع التصورات لمشاريع وبرامج تنموية تهم الحاجيات الأساسية لسكان المنطقة البلدية، وبين مهام الدولة المالية والرقابية، وبالتالي لا خوف من مسألة التدبير الحر فهي لن تمس من وحدة الدولة. لكن المريب في الأمر أن النسخة الجديدة المعدلة تطرح مساءل على غاية من الخطورة بل وقد تفتح الباب أمام ممارسات الإقصاء والتهميش واثارة النعرات (العروشية) والفئوية. *كيف ذلك؟ -إن النسخة الحالية لمشروع المجلة المعروض على الجلسة العامة تم فيها إدخال تحويرات جوهرية مسّت بعض الفصول المهمة والأساسية والتي تمثل العمود الفقري للمجلة وضربت مبادئ دستورية وقلصت كثيرا من معنى السلطة المحلية، وهناك فصلان جاءا في صيغة ضبابية ويتطلبان قرارات سياسية واضحة، فيم تطرح فصول أخرى إشكاليات ذات طابع قانوني تقني. فالتعديلات المدخلة على النسخة الأصلية لمشروع المجلة أفرغتها من محتواها وضربت مبدأ الاستقلالية المالية للبلديات ولم توضحها وتراجعت عن حق دستوري وهو حق المشاركة للموطنين، في صياغة وتصور البرامج والمشاريع التنموية. والتركيز على العدد الكبير من فصول المجلة (يفوق 360 فصلا) مسألة فيها الكثير من المغالطات، فأهمية المجلة لا تقاس بالميزان ولا بعدد الفصول بل بمدى احترام المبادئ الدستورية. فالدستور وضع أربعة مبادئ أساسية لتكريس مبدأ اللامركزية والسلطة المحلية، وهي ضمان حرية التدبير مع احترام وحدة الدولة، ضمان الاستقلالية المالية للجماعات المحلية، الاحتكام إلى القضاء دون غيره للبت في النزاعات بين الجماعات المحلية فيما بينها، او بين الجماعات المحلية والمواطن او بين الجماعة المحلية والسلطة المركزية، وأخيرا مبدأ إلزام الجماعات المحلية باعتماد آليات الديمقراطية التشاركية والحوكمة. *أين يكمن الخلل برأيك تحديدا وماهي الفصول التي شملها التعديل وضربت المبادئ الدستورية؟ -أعطيك مثلا التعديلات المدخلة على الفصل 29، أعتبرها تراجعا عن مبدأ دستوري وهو مشاركة الموطنين والتزام الجماعات المحلية باعتماد التشاركية الديمقراطية وتشريك كل مواطني المنطقة البلدية دون استثناء او تمييز. لقد تراجعت اللجنة النيابية عن هذا الالتزام ما يسمح لاحقا للجماعة المحلية بتشريك عمادة وإقصاء عمادة اخرى، كما يمكن للمجلس الجهوي أيضا تشريك معتمديات وإقصاء أخرى او تشريك فئات معينة من المواطنين واقصاء اخرى من مبدأ التشاركية الديمقراطية. فالفصل نص في صيغته الأصلية على «التزام» الجماعات المحلية بتشريك كل المواطنين بجميع فئاتهم دون تمييز، لكن اللجنة عدّلت في نص الفصل وحذفت مبدأ الإلزامية، والأدهى والأمر ان اللجنة حذفت الزامية مشاركة المواطنين وهم أساس العلاقة والمستفيدين من خدماتها وعوضتها بعبارة غريبة كالتالي: «يتشاور المجلس البلدي مع المجتمع المدني لتحديد آليات المشاركة» وهنا جاءت صيغة المجتمع المدني في المطلق وهي عبارة غير قانونية تحتمل الكثير من التأويل.. فعبارة «التشاور مع المجتمع المدني» ضرب لمبدإ أساسي يتمثل في حق المواطن في المشاركة على أساس المساواة ويعتبر خرقا دستوريا يتمثل في تساوي المواطنين في الحقوق، كما تم حذف إلزامية تخصيص المجلس البلدي لميزانية لإعلام المواطنين بالبرامج والسياسات العمومية وتعويضها بعبارة «تتخذ كل الإجراءات المناسبة». لا بد من التحذير من أن النص الجديد للفصل 29 يضرب وحدة الدولة، فهو لا يحدد المقصود بالمجتمع المدني وهل يتم تمثيله من داخل حدود الجماعة المحلية ام إمكانية ان يكون من خارج حدودها (خاصة في صورة إن كانت الحدود الترابية للجماعة المحلية تفتقر لنشطاء بالمجتمع المدني). بمعنى ان المجلس البلدي في هذه الحالة له صلاحية استدعاء من يشاء تطبيقا لعبارة «للتشاور مع ممثل عن المجتمع المدني» وقد يكون طريقة اختياره لهذا الممثل تتماشى مع لونه السياسي فلا يهم الكل او البعض، وقد يكون المجتمع المدني نقابة او جمعية او فرع لمنظمة وطنية.. وهذا الأمر قد يفتح الباب أمام تشريع للفوضى والإقصاء وخلق نعرات محلية «عروشية» بين متساكني المنطقة البلدية، إذ يمكن أي جماعة محلية الاتفاق مثلا مع الاتحاد المحلي لاتحاد الشغل أو الاتحاد المحلي للصناعة والتجارة او جمعية دينية ( وفقا لتوجهات اللون السياسي للمجلس البلدي) باعتبار عدم وجود تحديد واضح لمفهوم المجتمع المدني التي جاءت في صيغة الإطلاق. كما ان آليات وصيغ التشاركية تم حذفها في هذا الفصل واستبدالها بعبارة «بالتشاور مع المجتمع المدني» وهي أيضا تعتبر ضربا لمبدأ التدبير الحر، في حين ان النص الأصلي أحال هذا المبدأ لأمر حكومي لضمان المساواة بين المواطنين في حقهم في المشاركة.. *وأين تكمن التعديلات التي مست من مبدأ السلطة المحلية؟ -أعتبر أن التعديل الذي شمل الفصل 127 ضرب السلطة المحلية في العمق، وافرغ مبدأ الاستقلالية المالية للجماعات المحلية من محتواها. فهذا الفصل لا يضمن الاستقلالية الفعلية للمجالس البلدية، إذ نص على أن تتكفل الدولة تدريجيا بضمان أن الموارد الذاتية تمثل النصيب الأوفر لميزانية الجماعات المحلية، كما يتحدث نفس الفصل ان الدولة تقتطع تدريجيا منح لتلبية حاجياتها. الفصل 127 على صيغته الحالية ما زال يكرس المركزية المالية وهيمنة السلطة المركزية على المحلية ولا يضمن للجماعات المحلية استقلالية مالية فعلية، وحتى في صيغته الأصلية اتسم بالغموض فما كان من اللجنة البرلمانية الا وضربته في الصميم وهو ما سيضر بعديد البلديات الصغيرة وخاصة المحدثة منها التي ستكون تحت رحمة السلطة المركزية. *وماذا تقترح؟ -المطلوب ذكر التزام واضح وصريح للدولة لضمان الاستقلالية المالية للجماعات المحلية حتى لو كانت تدريجية من خلال مناقشة ميزانية الدولة سنويا، والتزام الدولة بتحويل جزء من الضرائب إلى الجماعات المحلية. واقترح ان يتم اصلاح الفصل 127 وتعديله بإلزام الدولة بتوفير جزء من الضرائب من خلال قوانين المالية السنوية ثم تعمل الهيئة العليا للمالية والمنصوص عليها ضمن مشروع المجلة توزيع مناب كل بلدية وفقا لمعايير وشروط يتم ضبطها. *قلت أن بعض الفصول تتطلب الحسم فيها قرارات سياسية، ماهي؟ -هناك مسألتان في مشروع المجلة ذات أبعاء سياسية تتعلق الأولى بتفرغ رؤساء البلديات فقد كان المقترح الأصلي اعتماد التفرغ كمبدإ بالنسبة للبلديات التي يفوق عدد سكانها 30 ألف ساكن، وبالنسبة للبلديات التي يقل سكانها عن 30 ألف ( يهم أكثر من 200 بلدية) فقد كان التوجه إعطاء المجلس البلدي صلاحية البت في تفرغ من عدمه،.. لكن اللجنة البرلمانية أقرت اعتماد مبدأ التفرغ الكلي لجميع رؤساء البلديات، ما سيحرم عديد الكفاءات من القطاع الخاص من الترشح لرئاسة المجالس البلدية باعتبار أنهم سيكونون مجبرين على التخلي عن أعمالهم واختصاصاتهم المهنية، كما سيثقل كاهل البلديات الصغيرة والمحدثة بأعباء التأجير والمنح المالية المسندة لرؤساء البلديات المتفرغين. لا بد من مراجعة الفصل المتعلق بالتفرغ رئيس البلدية لأن الصيغة الأصلية تشجع على الانفتاح على القطاع الخاص. اما المسألة الثانية فهي تهم المجلس الجهوي، فهناك احتمالان: إما أن يتولى المجلس الجهوي تنفيذ برامج ومشاريع جهوية على ميزانيته، أو أن يكون على المجلس الجهوي صياغة برامج ومشاريع للجهة ويحيلها للسلطة المركزية لتنفيذها. لكن المجلة لا تتطرق بوضوح إلى أحد الخيارين وهو ما يتطلب حسم ذلك بقرار سياسي. *وماذا عن الفصول التي تطرح اشكالية ذات طابع تقني؟ -هي تهم أساسا الفصول 13 و15 و239 والتي جاءت متناقضة وتطرح اشكالية الصلاحيات المشتركة للبلديات. فالفصل 13 يتحدث عن ضبط الصلاحيات المشتركة بقانون، في حين ينص الفصل 15 على مبدأ التفريع، أما الفصل 239 فيضع صلاحيات تمارسها البلديات حاليا مع صلاحيات جديدة (مثل النقل الحضري والمستشفيات.. ) بمعنى ان كل فصل يتحدث عن تقنية خاصة.