الولايات المتحدة أعادت النظر في ثقتها للإسلاميين ربما ما نسيه المهتمون بالمشهد الانتخابي والسياسي في تونس هو أن هناك ما يمكننا تسميته بالحالة الإسلامية في المنطقة والتي قد لا ترضي غرورنا كمثقفين نؤمن بالعصرنة والديمقراطية والتقدم... ونتوهم أو نعتقد أن ذلك مناقض لتلك الحالة الإسلامية لكن وجب علينا الاعتراف بأن عوامل كثيرة ساعدت في صناعة هذه العودة إلى نوع من الأسلحة لا شك أن وسائل الإعلام لعبت دورا كبيرا في ذلك.
إعداد: منية العرفاوي
الإسلاميون «بمباركة» أمريكية
وأن هذا الارتباط بين تقليدية الخليج «الإسلامية» وعودة التيار الديني بقوة كبيرة لا سيما السلفي منها في مصر ورضاء الأمريكيين على إسلامي القاعدة في ليبيا وما ينتظر في المغرب والجزائر وحكم تركية من قبل حركة إسلامية كل ذلك جعل الولاياتالمتحدةالأمريكية تعيد النظر في قابليتها للإسلاميين في قيادة بلدانهم إذ أنها وجدت في ذلك حلاّ على حساب تصورها القديم الذي يضعهم جميعا في سلّة واحدة متهمة إياهم بالإرهاب ووفق هذا الخيار استطاعت أن تشق صفوفهم وتقسمهم إلى قسمين. قسم جهادي راديكالي لا يزال يحيا في أفغانستان وباكستان والعراق ولربما في الشيشان. وقسم آخر وسطي معتدل إلى حد بدأ أو هو اعتلى بعض كراسي الحكم في بعض البلدان العربية والإسلامية وهذا الصنف لا يرى في موقف الولاياتالمتحدة هذا مناقضا له أو يصنّف الولاياتالمتحدة ضمن الأعداء وهو يعترف بقبوله أو تعاونه معها وهنا يجب أن نقف عند معطى هام وهو تجربة غزة فقد صعد الإسلاميون هناك بواسطة الصندوق لكن عدم رضا الولاياتالمتحدة على حماس قد عزلها وأفسد تلك التجربة الديمقراطية الفتية..
الاجتثاث.. رأس مال النهضة الرمزي
ولا شك أن حركة النهضة بوصفها حركة إسلامية تدرك جميع هذه الحيثيات وتتعامل معها بذكاء السياسي الحذر ولذلك هي أرسلت رسائل طمأنة لكافة القوى الدولية لأنها تعلم حجم فعلها في الواقع السياسي الوطني والمحلي وبقدر استفادة النهضة من تلك التجارب التاريخية بالقدر نفسه جاء التعاون معها من قبل مناوئيها قديما «معلبا» لم يقرؤوا الدروس مما يدور حولهم في الداخل والخارج فالمتأكد أن النهضة استفادت أيما استفادة من الأساليب الأمنية التي عولجت بها قضايا صراعها مع السلطة زمن بن علي فتلك التضحيات التي قدمتها والتي كانت نتيجة لما تسميه هي نفسها بسياسة الاجتثاث أصبحت تشكل لديها رأس مال رمزي استخدمته بالتصريح أو التلميح في حملتها الانتخابية ولكن أهم نتيجة هو أن اقتلاع النهضويين من جذورهم وفق الوصفة التي اعتمدتها أجهزة دولة بن علي الأمنية والسياسية قد فشلت وعادت النهضة أكبر قوّة مما كانت.. لكن المفارقة هو في إعادة انتاج ذلك الصراع فالقوة الثانية التي صنّفت نفسها عدوا للنهضة لم تعد تمتلك الأدوات البوليسية ولكنها اعتقدت أنها تمتلك سلاحا آخر لا يقل قوة وأهمية وهو الدعاية والإعلام... فمنذ الأيام الأولى للثورة ظهر تيار قوي يستعمل للأسف نفس القاموس الاصطلاحي الذي استخدمته الماكينة الإعلامية والسياسية والدعائية لحكومات بن علي... يتحدثون كثيرا عن قوى الحداثة والديمقراطية والعقلانية والتنوير إلخ... في مواجهة قوى الظلام والرجعية والظلامية والتخلّف والتطرّف والخوانجية وقد كانوا يعتقدون أن كل ذلك يمثل رصيدا رمزيا سيقنع الناس بأن ما يقولونه على النهضة والتيارات الدينية بما في ذلك التحرير والسلفية ولقد اختصت في ذلك تلفزات وإذاعات وجرائد ومواقع انترناتية ووصلت تلك العملية الإعلامية المنظمة أوجها عندما وقع بث فيلم «لا ربي ولا سيدي».. وفيلم «بلاد فارس» وما صاحبهما من ردود أفعال لم تكف بالتأكيد لصالح الجماعات المتخفية وراء ذلك الاتجاه ولا يختلف اليوم المتابعون للشأن السياسي في أن تلك الحملة المنظمة قد كانت لصالح حركة النهضة ولصالح أصحابها ولا أدلّة على ذلك هي نتائج الانتخابات نفسها.
صراع الإيمان والكفر
فذلك النوع من الصراع الذي قسّم البلاد إلى إيمان وكفر وتحت يافطة الدين والعلمانية أو الحداثة والظلامية قد جعل عامة الناس بمن فيهم من أهل الطبقات المترفهة وحتى المتعلّمة ينحازون إلى الإيمان. والدليل على ذلك هي عملية التصويت المكثفة لحركة النهضة والتي تختزل كافة ردود الفعل تجاه الحملة الإعلامية المكثفة ورفض كثير من التظاهرات باسم «اعتقني» و«سيّبني» ولا أدري ماذا؟
وجوه نضالية غابت عن برلمان الثورة
لكن المؤسف في هذا المشهد الذي أحمّل فيه المسؤولية للقوى التي حوّلت الصراع السياسي إلى صراع ديني.. المؤسف فيه هو أن قوى الثورة ومناضليها ورموزها الذين لم يغيبوا على المشهد منذ 17 ديسمبر إلى 14 جانفي وإلى 23 أكتوبر غابوا عن المشهد في برلمان الثورة أو المجلس التأسيسي وهذا بسبب تلك القطبية الحادة مما حرم التيارات القومية واليسارية المناضلة وبعض الشخصيات الوطنية والحقوقية المتميزة بمصداقيتها والنقابية المتميزة بنضاليتها لا تجد المكانة التي تليق بها في المجلس التأسيسي اعترافا لها بما قدّمته وفي مقابل ذلك تصعد إلى برلمان الثورة وجوه لا علاقة لها بالثورة بل منهم من كان يناصبها العداء ويخترق المجلس التأسيسي الذي طالما انتظرته البلاد بنخبها وفئاتها الشعبية لتصحيح وضع دام أكثر من نصف قرن تعود إليه شخصيات دستورية وأخرى ليبرالية لا تمثل الشعب وإنما تمثل جهاتها أو قبائلها وتكتسب الرمزية التاريخية للتأسيسي...
---------------
الهاشمي الحامدي «حفظ» دروس التسويق السياسي الغربي..
قد يختلف المتابع للواقع السياسي في تونس مع العريضة الشعبية وصاحبها السيد الهاشمي الحامدي المتميز ببراغماتيته السياسية التي لا حدود لها والتي قد تقوده من الموقف إلى نقيضه لكن يجب الاعتراف بأن الرجل الذي يمتلك قناة تلفزية تروّج لأفكاره ولشخصه حفظ بدقة دروس التسويق السياسي كما هو متعامل بها في أوروبا وأمريكا لذلك لم يكن يعنيه أن يقدم وعودا قابلة للتحقيق أو هي غير قابلة ولا يعنيه إن كان مسموحا باستعمال الدين في الدعاية السياسية أو غير مسموح ولا يعنيه أن يتحالف مع قوى قديمة معادية لشعب أو غير معادية ولا يعنيه أن يتصادم مع هذا الطرف أو ذاك أو لا يتصادم فكل الطرق كانت بالنسبة له تؤدي إلى المجلس التأسيسي. ولقد استطاع أن يحقق بعض أحلامه وليس كلها ولكن الخطأ في رأيي سواء كان بحسن نية أو بسوئها هو استقاط بعض قائماته بعد الانتخابات وليس قبلها فإذا كانت الهيئة قد طبّقت ذلك القانون على جميع القوى بما في ذلك العريضة لأعفتنا من هذه التداعيات المضرة بالبلاد والعباد أما أن يعلن عن نتائج الانتخابات فالأمر سيتحول من صراع مع صاحب العريضة إلى عدم احترام أهل العريضة سواء المرشحين أو الناخبين وعلى الهيئة الآن أن تتحمّل مسؤوليتها وتقنع هؤلاء أن الحل الأسلم ليس العنف والحرق والتدمير لكن الالتجاء إلى الوسائل القانونية والقضائية وسنكون لها شاكرين أم أن القضاء ينصف أهل العريضة ويعيد لسيدي بوزيد وأهلها «رمزيتهم» ومكانتهم التي أعطتهم إياها الثورة ويكون بذلك قد خلّص المنطقة الحاصنة لرمز البوعزيزي مما لوثته اجراءات الهيئة المستقلة بهذا التصرف غير المدروس وغير محسوب العواقب.