- عاد فلاديمير بوتن إلى روسيا رئيسا مرة أخرى، في وقت تحاول فيه موسكو استرجاع مجدها الماضي وصولاتها وجولاتها في الساحة الدولية. وبتتويج بوتن مرة ثالثة على عرش الكرملن، يظهر مجددا دور المجموعات الأوليغارشية التي تؤثر بشكل كبير في الحياة السياسة الروسية، لكنّ مجد روسياالجديدة يرتبط كما يرى مراقبون بمجد القيصر المعاصر الذي يحاول بكلّ الأشكال صناعة روسيا قوية و«حديدية». الدب الروسي في سباق اللاعبين الكبار يحن الروس إلى تلك «الأيام القديمة الرائعة» عندما كان حضورهم قويّا في ملاعب النظام العالمي والعلاقات الدولية. واليوم تحاول روسيا التموقع من جديد على الساحة الدولية يقودها في ذلك فلادمير بوتين الذي يبحث عن استعادة مقعد روسيا بين مقاعد اللاعبين الكبار. لم تعد الساحة الدولية بعد اليوم ملعبا أمريكيا صرفا، ففي ظلّ صعود قوى اقتصادية وسياسية جديدة، عاد الحلم الإمبراطوري ليقظ مضاجع الروس مجددا. وقد لعب السلاح دورا جوهريا خلال الحرب الباردة بين الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفياتي سابقا إبان نظام القطبين، لذا توعد بوتن خلال حملته الانتخابية بإعادة تسليح روسيا بشكل «غير مسبوق»، معتبرا أن ذلك أصبح ضرورة بسبب سياسة الولاياتالمتحدة وحلف شمال الأطلسي. وتعتمد موسكو، كما كان الحال في عهد الاتحاد السوفياتي، في ضمان أمنها القومي على السلاح النووي، إذ قال أحد كبار المسؤولين في الكرملين في تصريح إلى وكالة «انتر فاكس» الإخبارية إن «القوات النووية تشكل وستبقى كذلك العنصر الأساس لأمننا وقوتنا العسكرية». ويبقى الهدف الأساسي الذي تسعى إليه روسيا إعادة هيبتها والحفاظ على أمنها وسيادتها من أي خطر يحيط بها، وهو ما يدفعها إلى تعزيز وضعها العسكري. وليس بالسلاح فقط تأمل روسيا في استعادة دورها الإقليمي الهام، بل أيضا عبر مجموعات المال والأعمال المعروفة بالأوليغارشية التي تلعب دورا كبيرا في تحديد السياسات الروسية. بوابة الشرق الأوسط ويعتبر عدد من المحللين أنّ عودة روسيا إلى لعب دور هام في العلاقات الدولية يبرز بالخصوص من خلال موقفها من الملف السوري وتمسكها برفع حق النقض «الفيتو» ضدّ القرارات التي ترى فيها تحضيرا للتدخل العسكري ضدّ النظام السوري. كما طورت موسكو مواقف مغايرة من تلك التي تجنح القوى الكبرى إلى اتخاذها من الملفات الدولية الشائكة على غرار النووي الإيراني وطموحات إسرائيل التوسّعية وبروز الإسلام السياسي في أنحاء العالم العربي. وقد تمّت مناقشة هذه المواضيع بعمق خلال المؤتمر الذي عُقد في 17 و18 فيفري الماضي بعنوان «تحوّل العالم العربي ومصالح روسيا.» ومن الطبيعي أن تهتم روسيا بالشرق الأوسط، على اعتبار أنّ مصالحها واستقرارها يرتبطان بهذه المنطقة. الاقتصاد أولا لقد استفادت روسيا كثيرا من طفرة أسعار النفط الأخيرة، ولكن روسيا تدرك أن أمرا كهذا، لا يمكن الرهان عليه على المدى الطويل، ولذلك فهي تسعى إلى استخدام عائداتها من النفط والغاز لتحقيق أكبر قدر من النمو الاقتصادي، الذي يعد مفتاحا لاسترجاع موسكو لمكانة هامة دوليا. ويرى بوتين نفسه في إحدى المقالات التي نشرها في الصحافة الروسية أنّ «روسيا تحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى الدخول في الأسواق الخارجية دون أن نتعرض لأي تمييز.» وبالرغم من الدور المتزايد لروسيا مؤخرا على الساحة الدولية، فإنّ عددا من المراقبين يرى أنّه من المبكر الحديث عن حضور قوي لموسكو مشابه لذلك الذي عرفه الاتحاد السوفياتي سابقا، ذلك أنّ روسيا على الرغم من أنّها أول دولة مصدرة للنفط في العالم وثاني دولة في إنتاج الغاز الطبيعي فإنّها لم ترتق بعد إلى لاعب اقتصادي منافس يستطيع أن يكون ندا للاعبين الكبار.
« الأوليغارشية».. مفتاح الكرلمن كان لانهيار جدار برلين والاتحاد السوفياتي تبعات عدة، داخل الدول الشيوعية سابقا وخارجها، لكنّ هذا الانهيار الإيديولوجي الكبير أفرز ظهور مجموعات أوليغارشية لعبت دورا كبيرا في روسيا خلال تسعينات القرن الماضي. فقد استفادت قلة من رجال الأعمال والمال من الفوضى التي عقبت انهيار الاتحاد السوفياتي، فتمكنت من جمع ثروات هائلة نتيجة الفزع الذي عمّ روسيا في بداية التسعينات. لم يكن من الممكن أن ينفصل هؤلاء الأوليغراشيون عن السياسة، فلا طالما كان للمال دور فعّال في إنقاذ السياسيين في روسيا من أية أزمة قد تعترض طريقهم، فقد تمكن الرئيس الروسي بوريس يلتسون من أن يعود إلى الكرلمن مجددا عام 1996 بفضل مجموعات المال الصغيرة تلك. ويعلّق نودارا سيمونيا رئيس معهد الاقتصاد العالمي والعلاقات الدولية لدى أكاديمية العلوم الروسية على ذلك قائلا: «إنّ الأوليغراشيين أو الليبراليين المزيفين قد صنعوا الرأسمالية البيروقراطية أو كما تسمى في روسيا الرأسمالية الأوليغارشية». وكانت الرأسمالية البيروقراطية الروسية الأسوأ من نوعها في العالم. ومن المعروف عن بوتين اعتماده لسياسة عمودية في إدارة شؤون البلاد، وفي كتابه «كفانا أوليغارشية، تحيي الديمقراطية» يشير هرفي كيمبف إلى تنامي تركيز عملية صنع القرار في يد نخبة صغيرة من القادة السياسيين وقادة الأعمال والجهات المالية، وصحفيين مؤثرين، وما إلى ذلك. فهذه الفئات القليلة النافذة في روسيا هي التي تؤثر بشكل كبير في صنع القرار الروسي.
ماهي الأوليغارشية؟ الأوليغارشية أو حكم القلة هي شكل من أشكال الحكم بحيث تكون السلطة السياسية محصورة بيد فئة صغيرة من المجتمع تملك المال أو النسب أو السلطة العسكرية. وقد استخدم أرسطو هذا المصطلح كمرادف لحكم الأثرياء. ويستخدم هذا التعبير في العصر الحديث لوصف الحكومات التي تعتمد على نفوذ أجنبي، أو التي ليس لها رصيد جماهيري بحيث تعتمد على دوائر التأثير في السلطة مثل رجال المال أو الصناعة. وبالرغم مما يمكن أن تظهر عليه الأوليغراشية من أنّها منافية للديمقراطية، فإنّ عددا من المراقبين يعتبرون أنّ الكثير من الأنظمة الغربية ليست إلا أنظمة أوليغارشية يؤدي فيها تركيز رأسمال إلى تركيز السلطة لدى فئة بعينها.
بورتريه فلادمير بوتين .. حول مزحته مع برلسكوني إلى حقيقة «هل نبقى رؤساء إلى أن تبلغ أعمارنا 120 عاما؟» مزحة استقبل بها فلادمير بوتن رئيس الوزراء الإيطالي السابق سيلفيو برلسكوني عام 2010، لم يحالف الحظ «الكفالييري» ، لكنّ الأقدار تبدو إلى جانب قيصر الروس الذي من الممكن أن يبقى متوجا على عرش الكرملن إلى حدود سنة 2024. بالدموع عبر «القيصر» عن فرحته بالرجوع، أمام الساحة الحمراء حيث بنى قيصر آخر، إيفان الثالث، على تلّ «بوروفيتسكي» أو غابة الصنوبر قلعة محصنة منذ نحو ستة قرون. خلود سياسي 120 عاما من السلطة أو أكثر، لن يقف شيء أمام ذلك الطفل المولع بالأنشطة الدفاعية، ربما لم يكن يدرك حينها أنّ نجوم عام 1990 ستنير دربه نحو السلطة. اختار بوريس يلتسون الاستقالة ليفتح أبواب الكرملن أمام رئيس الوزراء الطموح على مصرعيها. لم يتردد القيصر الجديد لوهلة، وتخلص بسرعة من رجال الأعمال فاحشي الثراء الذين كانوا يحيطون بيلتسون، فبدأت روسيا صفحة جديدة. وقد كانت الشيشان المطالبة بالاستقلال أول مكان يحاول فيه القيصر إثبات وجوده، شنّ بوتين حربا قاسية ضدّ الشيشانيين، وبفضل تلك الحرب تحوّل إلى الرجل رقم واحد في روسيا. «رجل من حديد» يعزف بوتين على آلة البيانو ولا يمانع في الغناء في عدد من المناسبات، لكنّ مواهبه الفنية وملامحه الباردة لم تمنع الصحافة الروسية من وصفه ب«رجل من حديد»، فقد كان جاسوسا محترفا في جهاز المخابرات السوفياتي سابقا (كا جي بي)، فترة غامضة جدا من حياة الرئيس الروسي، ما يعرف عنها أنّه قد كلف بمهام في الجمهورية الديمقراطية الألمانية بين عامي 1985 و1990. تعّلم أسرار الخلطة السرية للوصول إلى رئاسة أكبر دولة في العالم من حيث المساحة على الأقل من جدّه الطباخ، متحايلا على الدستور تارة ومكتفيا بالمقعد الخلفي وراء ميفيديف تارة أخرى. لكنّ بهراته الخاصة لم تغب لحظة عن الموعد. المعروف عن الرجل أنّه قد ابتكر ماركتينغ سياسي خاص به فلم يلامس ابتذال برلسوكني ولم يغرق في حياته الشخصية على غرار ساركوزي. مثلما يطرح منافسيه أرضا في لعبة الجيدو التي يتقنها بشهادة مدربيه، يلقي بوتين باتهامات التزوير والتحايل والاستبداد عرض الحائط، يثبت مرة أخرى أنّه صامد وأنّه قادر على أن يقود دولة قوية مثل روسيا إلى حيث يشاء صانعا مجدا، يأمل أن تبقي ذكراه في أذهان الروس إلى الأبد كما يردد دائما.