بقلم :جيهان لغماري مِنَ الإسهال في الخوف والرهبة من «جريان» الجوف زمن عصا النظام السابق إلى الإسهال في «الثورجة» والخطابات العصماء والتحاليل السياسية والأمنية وحتى الكُروية في خليط هجين لم تفح منه سوى رائحة الأزمات والاغتيالات والإرهاب والفوضى والمطالب عالية الصراخ واستفحال شعار «تَوة توّة» و«أنا وبعدي الطوفان». حقا، هل أصبحت البلاد عصيّة على الحُكْم؟ أم أنّ ما يحصل اليوم هو نتاج مسار سياسي لم يُفلح لاعبوه في اختيار الخطة الناجعة للمرور إلى برّ الاستقرار؟. «ديقاج» هذه الكلمة السحرية للثورة أصبحت حمارا قصيرا لإقصاء كل من يرغبون في إزاحته، يكفي أن تجمع حفنة من أصحاب الأصوات الخشنة وبلافتة أو اثنتين ثم التوجه إلى إدارة أو مؤسسة عمومية أو خاصة ليتم الأمر بسهولة. لقد أصبح الأمر يتطلّب الاستجداء والإلحاح كي يقبل أحد الكفاءات كرسي المسؤولية لأنه يراه مرادفا لتعرضه للشتم والهرسلة وحتى الضرب في بعض الأحيان والتعدي على حياته الشخصية. بعد الثورة مباشرة، ألم يتسبّب إسهال «الثورجة» في إفراغ الإدارة التونسية من أكفأ إطاراتها بتعلّة فسادها من الأسفل إلى الأعلى وتغلغل الحزب الحاكم في خياشيمها؟، مَنْ حافظ على تزويدنا بالخدمات الحياتية اليومية من كهرباء وماء ونقل وأجور وصحة وأوراق إدارية في الأيام الأولى بعد سقوط النظام السابق؟ هم رجال ونساء الإدارة. كان من الأجدى المرور سريعا إلى القضاء دون سجن مسبق ثمّ البحث عن تهم تبرر الزنزانة، فارتهان الإدارة وقتها عند السلطة لا يعني عدم وجود إداريين خدموا مفهوم الدولة ولم يتورطوا في الفساد ووصلوا إلى مناصبهم بشهائدهم واجتهادهم وجديتهم. هذا الإسهال الكلامي عسّر الحلول على الحكومات الانتقالية وكل السياسيين في الحكم كما في المعارضة، والمسألة مفهومة لأنهم أول من ساهم في هذا الإسهال ومرّرا «تقنياته» للناس وحين انكشفت حقائق الأمور أصبح التراجع عنه صعبا. تذكّروا جيدا أن حكومة النهضة مثلا وبعد أن بدأت تتلمّس آليات العمل الحكومي استنجدت بعديد الكفاءات التي عملت في الإدارة السابقة ورغم رميها بتهمة «أزلام» النظام السابق، تبيّن بعد تمحيص أنّ أغلبهم كانوا إداريين بامتياز واشتغلوا في حدود المهام الموكولة إليهم. كذلك المعارضة ألم تصبح شاكرة راضية على أكثرهم؟ في الحالتيْن، الاستفاقة كانت متأخرة. ومن تبعات ذلك، طال الإسهال المواطنَ أيضا وانظروا سلوكه اليومي: يقود سيارته بلا احترام للأضواء ولشرطة المرور، يرمي فضلاته في الشارع ويتأفف من الروائح الكريهة، يطالب بالحقوق مع الذهاب متأخرا إلى العمل!، يشتكي من نقص الخدمات البلدية مع أنه لم يدفع «الزبلة والخروبة» من زمان!، يتعدّى على الإداريين ومسديي الخدمات بتهمة البيروقراطية دون أن يحترم التراتيب والإجراءات، يعتدي على الأطباء والممرضين في المستشفيات ويتلف تجهيزاتها بتعلّة التراخي في تقديم العلاج، يضرب عن العمل من أجل منحة لا تدخل في اختصاص عمله أصلا والأمثلة بعدد التونسيين تقريبا!. إنّ مَنْ استسهل الإسهال في البداية لأسباب منفعية سياسوية ضيقة، عليه الآن تحمّل مائه المتعفّن في انتظار حَلّ قد لا يجيء قبل سنوات...