وافانا الصديق العزيز مازري مرتضى الزغيدي بدراسة قيمة تحت عنوان «العولمة بربرية الاستعمار الجديد». ونظرا لجدّية الأطروحات التي وردت في هذه الدراسة، فقد اخترنا ان ننشرها على ثلاث حلقات تيسيرا لقراءتها. وقد اهدى الكاتب دراسته الى جميع فصائل القوى الوطنية المناهضة للعولمة الامبريالية والتي تكرّس مقاومتها في كل شبر من الكرة الارضية... والى كافة الشهداء والشهيدات الأشاوش الذين سقوا بدمائهم الطاهرة أرض المقاومة والمعارك المناهضة لبربرية الاستعمار الجديد... والى كلّ أبطالها وبطلاتها في فلسطين والعراق وكوبا وفنزويلا والشيلي وبوليفيا والمكسيك وغيرها، الذين كرّسوا الحقيقة القائلة بأنّ الامبريالية نمر ضخم من ورق!! مدخل موجز: لو اهتم بعض خبراء الدراسات والبحوث والتحقيقات (إن أفرادا أو مجموعات) بالنبش المنهجي والجدي في ثنايا ارشيفات الصحافة المكتوبة والمرئية والمسموعة في بلادنا خلال العشرية الأخيرة على وجه التخصيص... لتوصّل أحدهم أو جلّهم أو جميعهم ودون عناء كبير الى أنّ أهمّ ثلاث قضايا وطنية مصيرية «عبثت» بها الكثير من الأقلام والاصوات، وزاغت بها عمدا (أو جهلا ربما) نحو مسالك الطلاسم المبهمة.. هي حسب تدرّج مراحل العشرية: أ ما سمي تعسفا: «قضية المرأة التونسية» ب ما تم إصطلاحه جزافا: «الطريق التونسية نحو الديمقراطية.. والعدالة الاجتماعية» ت وأخيرا قضية العولمة.. وبالرغم من الاهمية القصوى والحيوية للملفين الاول والثاني (في الترتيب الشكلي فقط) فإن مجال اليوم لا يجيز التعرض لهما الان وقد يتم ذلك في كتابات لاحقة لو سمحت بها بعض الظروف وإرادة رئاسة التحرير. اما ملف العولمة، فهو في اعتقادي، اشد وطأة وأكثر تشعبا وأبلغ تشابكا. العولمة: اخطبوط في احشائه سموم: فمن باب الغيرة الوطنية الوقادة (التي تربى على هديها العديد من الاجيال والطاقات والعقول التونسية)، ألزمت نفسي بمحض ارادتي على قراءة ودرس وتمحيص أهم الكتابات المنشورة حول ملف العولمة بالمجلات والصحف التونسية خلال السنوات الاخيرة، والمذيلة باسماء وجوه بارزة جامعية ذات شأن، ورجال بحوث ودراسات شهيرين... كما اطلعت مباشرة على ما تضمنته بعض الاصدارات الجديدة في نفس الصدد، وتابعت اصداء العديد من الندوات حول قضية العولمة والعديد من الموائد المستديرة والملفات التلفزية والصحفية في الصدد... وهي جميعها قد مثلت منابر جيدة ومباشرة مفتوحة امام العديد من وجوه الجامعة التونسية ورجال الفكر والعلوم ورموز الثقافة والمعارف الشهيرين التي انجبتهم التربة الوطية بشقاء النفس ورعرعتهم بأموالها المحدودة وايضا بالعرق والدموع!! وفي صدد الاصدارات الجديدة حول موضوع العولمة لا مفر من الاشارة الى آخر اصدار جيد ومتماسك واشد جرأة من غيره وهو الذي تفضل به على الجميع بعد عناء بحث ودراسة وتأليف احد اساتذة التعليم العالي الاوائل بالجامة التونسية (ووزير التعليم العالي والبحث العلمي في مرحلة مضت)، أستاذنا المرموق في تواضع شديد:: الدكتور عبد السلام المسدي، وأعتقد انه ليس بالمرة من باب الصدفة، وليس إطلاقا من باب الهرطقة اللفظية والديماغوجية (التي يتفنن في ممارستها مع شديد الاسف بعض الوجوه والاسماء الرنانة) ان يصوغ الدكتور المسدي كتابه الجديد تحت عنوان مشحون بالايحاءات والدلالات، وهو «العولمة والعولمة المضادة». ولكن «بيت القصيد» يكمن في ان اغلب الباحثين والجامعيين والمفكرين والصحافيين البارزين الذين عالجوا ملف العولمة عبر مختلف قنوات الاتصال.. ظلوا يراوحون بين الاختفاء وراء الشجرة التي تخفي الغابة (بالنسبة للصنف الاول) والاصداع وان باحتراز وتردد شديدين بنصف الحقيقة وتعمد تناسي النصف الثاني منها (بالنسبة للصنف الثاني). ولكن الجميع يلتقون حول نقطة مشتركة واحدة: وهي محاولة استحماق العقول واستبلاه الاذهان، في سبيل اخفاء حقيقة العولمة عن الناس.. وفي هذا السياق، أتذكر الان ببعض الالم كيف انه ذات يوم سمعت احد اعضاء اتحاد جهوي للصناعة والتجارة يتحدث عن قضية العولمة باسى شديد (صادق) وبوضوح درامي اكثر من احد الجامعيين في ملف تلفزي في نفس اليوم؟ فالصنف الاول من بعض جامعيينا وخبرائنا في الاقتصاد والتنمية يعمد الى التهليل لحياة الشعوب الجديدة في ظل العولمة، وما يسمونه جزافا «الثورة التقنية» الهائلة المتولدة عنها، وارتفاع معدلات الانتاج الى حدود الفيضان، وفسح المجال امام جميع انواع الحريات الاقتصادية الفردية، وكسر حواجز المنع، وإطلاق العنان امام كل انواع «حريات» الاستهتار والتهور والبذخ والاستثراء. اما الصنف الثاني، فهو يتعلق ببعض الافلام التي تكتفي عمدا بالوقوف (كما يقال) على «ويل للمصلين» حيث يتجرأ اصحابها فعلا بالاشارة الى المخاطر المدمرة والناسفة التي تتولد عن العولمة، ويتعاملون مع ظاهرتها بصفتها نكبة جارفة.. لكنهمفي المقابل يسعون بكل طاقاتهم (وغالبا بأساليب نفسية) الى الايحاء للناس بأن تلك الظاهرة العالمية لا مفر منها ولا محيد عنها.. ولا راد لها، وكأنها قدر وقضاء مبرم.. وانه تبعا لذلك حسب رأيهم لا فائدة من مقاومتها اصلا.. ولا بد للعقل العربي والوطن العربي والاقتصاد العربي والثقافة العربية من الانخراط في ثناياها (والله غالب)!! ومن أشد المفارقات استهجانا وتقززا في هذا السياق (والتي تجيز الاستياء والسخط العارمين) ان احد رجالات الثقافة في بلادنا في ابداء رأيه حول مخاطر العولمة لم يفعل سوى زرع بذرة الاحباط والقنوط في النفوس، وإرهاب الذهن التونسي... بل لقد وصل به الامر الى صياغة نوع من الدعوة تنادي بما أسميته صوابا «الى تكثيف الأيدي وبيع العقل العربي الى اخطبوط العولمة السامة مقابل جهازي كمبيوتر وجهاز انترنات». مع العلم ان الاستاذ الجامعي المقصود كان لسنوات طويلة عميدا لاحدى الكليات، بل والانكى اطلاقا انه شغل لمدة سنوات عديدة (سابقا) منصب وزير.. للثقافة!! فبمراجعة وتفكيك تصريحاته العلنيّة المنشورة في الصدد، يقول حرفيّا : و»الاستثناء الثقافي عندنا لا يتمثل في رفض الغزو الثقافي» (والظفرين من عنده)، فهي معركة خاسرة»!! بل ويضيف في موقع آخر وفي نفس الصدد ما يلي حرفيا: «فلم يعد بإمكان اي دولة ولا اي نظام ان يتذرع بمقولة اهل مكة ادرى بشعابها، فينغلق ويشمح باستقلالية موهومة وانزواء تجاوزته الاحداث»! (راجع جريدة الصباح يوم 18 جويلية 2000 بالملحق الادبي صفحة 7 على وجه التدقيق)، ومن ذلك المنطلق (ومن غيره ايضا) فاني على يقين من ان اصواتا وحناجر كالتي اشرت اليها (وغيرها كثير مع شديد الاسف) تلتقي جميعها في خانة اذلال العقل العربي اكثر فأكثر وتحويله الى بضاعة رخيصة تباع بسعرارخص الى دوائر الجبروت العالمية والغطرسة والهيمنة والتسلط والمسخ، تحت راية كاذبة، زائفة خادعة ومخدرة انتحلت اسم «الانفتاح» الموبوء... ورغم الخطورة المتأكدة التي تمثلها مثل هذه الاصوات والاسماء الرنانة (التي يبدو انها تشكو انفصاما مرضيا في الشخصية والهوية)، فان بلادنا مازالت حبلى بالطاقات والعقول الوطنية حتى النخاع من الباحثين الاجتماعيين ورجال الفكر والثقافة والفنون والعلوم، والجامعيين الاوفياء لوطنهم ورجال ونساء الأدب بجميع حقوله والنقد، وخبراء الاقتصاد وعلم الاجتماع وعقول الفلسفة والتاريخ (على اختلاف اجيالهم) الامر الذي يسمح للجميع بتنفس الصعداء والاعتقاد الجازم بمقولة اجدادنا وآبائنا وامهاتنا القائلة بانه «مازال الخير في الدنيا». فانا أضم صوتي الفاعل لكل هؤلاء وأولئك (الذين بهم تعتز بلادنا رغم الداء والاعداء) لأصدع بملء صوتي الرصين واوكسجين حنجرتي الهادئة، بان العولمة ليست فقط تيارا استعماريا جديدا يجرف كل مقومات الشعوب والامم والاقليات إلى العدم، وليست فقط «تقنيات هائلة» تنير الاذهان وتقرّب الناس من بعضهم ليصبح الكون «قرية بلّورية» كما يتفنن البعض في الادعاء به.. اطلاقا لا.. إن لفظ «العولمة» اصطلاحا (وهو على وزن الفوعلة) ليس لفظا منعزلا ابدا عن سياقه التاريخي الثابت الذي تولد عنه ونشأ وفق خصائصه... وهو يقصد عولمة الرأسمالية في ابشع مظاهرها وأتعس أوجهها إن بصفة ارادية او قسرية وزرع بذورها فوق كل شبر من تراب كرتنا الارضية. وبمراجعة تاريخ الاحداث والتحولات العالمية طيلة الاربعين سنة الاخيرة، قد نقف على حقيقة ان منظومة عولمة الرأسمالية قد بدأت تتأسس على الورق داخل المكاتب المظلمة والانفاق الداكنة المرعبة لوكالات الاستعلامات والمخابرات الغربية مباشرة اثر انقضاض خروتشاف وزمرته على السلطة داخل الاتحاد السوفياتي في ذلك العهد يعني ان ذلك الحدث العالمي الحاسم قد يكون مثل البذرة الاولى (خارج اطار النظام الرأسمالي العالمي) لشروع استراتيجي وعلماء الغرب الرأسمالي في التنظير لايديولوجيا جديدة، تتجاوز أمر الصراع بين القوى العظمى، وتؤسس اللبنات الاولى لها، البعض يسميه اليوم من باب الدعاية السافلة: «العالم الواحد الجديد» أو «النظام الواحد الجديد» وهو ما يذكر الشعوب والامم والافراد بمآسي «الحزب الواحد» السيئ الصيت والسمعة!! وفي باب هذا السياق تحديدا، اتذكر باستمرار المقارنة التشبيهية الصائبة التي جادت بها علينا قريحة احد اساتذة التعليم العالي البارزين (وهو متقاعد الآن)، والتي يشرح فيها وبأسلوب مبسط في متناول كل الاذهان والعقول، إشكالية ابتلاع العولة الرأسمالية للكرة الارضية بمن فيها وبما فيها.. حيث يقول ان منظومة العولمة في باطنها وواقعها وخفاياها تشبه اللص العملاق المتجبر الذي كان يمارس لصوصيته وعدوانه على ضيعة غلال شاسعة يحرسها حارس ذو عضلات مفتولة ومقدام.. ثم لما خان هذا الحارس الامانة التي في عهدته، وشرع هو نفسه في سرقة غلال الضيعة والمتاجر بها في طي الخفاء الى ان دفع ثمن خيانته باهظا وتلاشي رويدا رويدا وفقد سلطان حراسته ونفوذه.. فوجد اللص العملاق المعتدي نفسه منفردا بالضيعة، ووضع الحارس تحت رحمته، وشرع يعيث فيها فسادا وتجبرا الى ان ابتلع كل الضيعة وما حولها!! إن أزيف كذبة تضليلية يروّج سمومها منظرو العولمة وبيادقهم واذيالهم (حتى في بلادنا مع شديد الاسف) تدعي ان «عصر الايديولوجيات» قد ولى واندفن تحت التراب وان البشرية في حاجة الى الخبز فقط» متجاهلين (أو ربما جاهلين... من يدري؟!) ان العقل والفكر يعيشان مع الازل، وانّ الافكار لا تموت ابدا مهما طال الزمان ومهما تنوعت الاحداث والتحولات.. وحتى ان تتالت مئات الاجيال وتلاحقت وتختفي اجيال وتأتي أجيال اخرى، فإن الافكار كمنتوج بشري للعقل وارث انساني ثابت) لن تموت اطلاقا، حتى بمفعول الصواريخ العابرة للقارات!! وبطائرات الأواكس او حرب النجوم!! ومن ناحية اخرى فإن العولمة نفسها (تماما مثل الرأسمالية والقومية والفاشية والاقطاعية وغيرها...) تمثّل في ذاتها ايديولوجية استعمارية فاشية جديدة ومتكاملة الاجنحة والعناصر.. فهي تمتلك جميع مقوّمات الايديولوجيا على الاصعدة الاقتصادية والسيّاسيّة والثقافة والاجتماعية وايضا في حقول القيم والدين والاخلاق والسلوك والتعليم والفنون وغيرها...! دون ان ننسى احد مركزات ايديولوجية العولمة، وهو المقوّم المخابراتي والعسكري وفي هذا الصدد، يستحضر الجميع مخططات التدمير والتخريب والنسف الاجرامية التي وضعتها ونفذتها معاول التدمير الامريكية (رأس حربة العولمة). في العراق الشقيق الصامد، وفي الشقيقة ليبيا، وفي الجزائر الحبيبة، وفي السودان الشقيق، وايضا وفي نطاق نفس مخططات العولمة الامبريالية، لن تنسى ذاكرة البشرية جرائم تفكيك مقومات دول اوروبا الشرقية ونسف ركائزها وهوياتها بالحديد والنار والديناميت، وتحويلها الى اسواق للمتاجرة بالاسلحة والاعضاء البشرية، والدّعارة المنظمة، والمخدرات... كما حولت العوملة تلك الدول وغيرها الى أوكار لشبكات الجريمة المنظمة البشعة، باشراف مباشر لاجهزة عصابات الاستعلامات والمخابرات الامريكية ولامفر من مساءلة العقل العربي تحديدا (مجسدا في مثقفيه وجامعييه ورموز أنفته ) عن الجريمة المتواصلة منذ وعد بلفور الى «اوسلو وحنان عشراوي» لابتلاع بلاد عربية كاملة؟ وعن جريمة خنق الاقتصاد العراقي وطفل العراق منذ ما يناهز العشرة أعوام؟ وعن الحظر الجائر المسلّط على كوبا الصديقة وشعبها الاسطوري منذ 38 سنة كاملة؟! فالعولمة الاستعمارية الجديدة يا مثقفينا في الوطن العربي ورموز عزّته وكبريائه لن تتردد ولو لحظة في الاقدام على تخريب ثقافتنا العربية ونسف مقوّماتها، وتذويب هويتنا العربية ومسخ تاريخنا المجيد وهتك اعراضنا وتفكيك سيادتنا الوطنية، وتعريض جيلنا الحالي وأجيالنا القادمة الى أشنع اساليب المسخ والتغريب.. بل ان استراتيجية العولمة الاستعمارية الجديدة قد وضعت بعد نصب غاياتها الدنيئة، اجتثاث العقل العربي من جذوره تدريجيا، مرورا بإعدام مقوّمات الثقافة العربية ودفنها تحت التراب، حتى وهي حيّة ترزق..!! وفي هذا المضمار، يقول الاستاذ حسين العوري في مناظرة صحفية ما يلي: «العولمة هي فلسفة الثعبان المقدّس «ليواصل شرحه في موقع آخر، فيقول فاذا كانت العولمة، ظاهرا تحطيما للحواجز حتى تتفاعل الطاقات وتتنافس الخبرات ومن اجل غد أفضل للانسان في كل مكان، فهي باطنا، وحش رأسمالي اطلق من عقاله حتى تبتلع الاقليّة النهمة جهد الاغلبية... وان كانت العولمة من حيث الشعار: حرية وحداثة وانسانية فهي واقعا: عنف وشراسة وهيمنة امريكية... ولا يمكن للعولمة الا ان تكون على هذه الشاكلة، لانها تتأسس على رؤية تحوّل العالم بموجبها لى سلعة فكل شيء بضاعة، الانسان والفكر والفن والاخلاق...» ومهما يكن من أمر، وبعيدا عن التطاحن المدمر والبغضاء المقيتة، إن الجيل الحالي، والاجيال العربية القادمة سوف تحاسب الجميع وفق تصديه للعولمة او احتضانه لها، لان كرامة الاوطان وحرمتها وسيادة الشعوب والامم فوق كل اعتبار!